العرف الحربي القبلي دراسة (أبريل 2016)


دراسة أعدت لبرنامج دعم الحوار الوطني على هذا الرابط
http://www.hiwar-watani.org/uploads/1/5/2/3/15238886/tribecodeconduct.pdf


العرف الحربي القبلي

دراسة وصفية/تحليلية



                                                                 

إعداد:
                                                    عبدالناصر المودع










تعيش اليمن حاليا حرب واسعة لم يشهدها اليمن خلال تاريخه الحديث، أدت إلى خسائر هائلة مادية وبشرية، وكان أكثر ضحاياها هم المدنيون. ويرجع سبب ذلك إلى عدم احترام المتحاربون للمرجعيات القانونية والأخلاقية للحرب، كالقانون الدولي الإنساني، أو الأعراف اليمنية المتوارثة المتعلقة بتنظيم الحرب وأنسنتها – إن جاز التعبير - وهي الأعراف التي تأسست وتطورت في المناطق القبلية ذات الطابع الحربي.
فهذه القبائل وعلى العكس من التصورات الجاهزة عنها، والتي تظهرها كقبائل متناحرة همجية، لديها تراث ضخم من الأعراف التي تنظم الحرب وتخفف من شرورها. فكما سيتضح في متن هذه الدراسة؛ فإن الحروب القبلية – في حال الالتزام بالأعراف المنظمة لها – تتحول إلى مجرد لعبة محسوبة النتائج، وذات مضامين رمزية، واستعراضية أكثر من كونها حروب حقيقية مدمرة كما هي طبيعة الحروب بمفهومها العام.
وأكثر المبادئ الأساسية التي تُـستمد منها هذه الأعراف، المبدأ الذي يقوم على منع مكافأة الغالب، وهو المبدأ الذي يفقد الحرب طابعها المدمر. والذي نجده جليا من خلال تحويل كل خسائر الطرف المهزوم البشرية والمادية، إلى ديون على الطرف المنتصر، وهو الأمر الذي يجعل الأطراف المتحاربة تتجنب إيذاء خصومها كي لا يتحول ذلك إلى عبء عليها.
ووفقا لذلك المبدأ؛ نجد أن الحروب القبلية في اليمن تفقد أهم صفة من صفات الحرب، والتي تمنح المتغلب الحق في فرض إرادته وكسر شوكة الخصم عن طريق القوة القاهرة، كما هو متعارف عليه في الحروب.      
وبالنظر إلى ما ذُكر؛ فإن الحاجة تدعو إلى البحث والتعريف بهذه الأعراف، ونشرها من أجل الاستفادة منها في هذه الأوقات، والاسترشاد بالمبادئ العامة التي اُستقت منها هذه الأعراف، للتخفيف من ويلات الحرب.
وعلى هذا الأساس؛ تأتي هذه الدراسة والتي اعتمدت مصادرها الرئيسية على ملاحظات الباحث، والمقابلات، والحوارات التي قام بها مع المطلعين على العرف القبلي من شيوخ القبائل، وغيرهم.

هدف الدراسة:

تهدف الدراسة إلى وصف وتحليل القواعد المنظمة للحروب القبلية في بعض القبائل اليمنية، والتي أطلقنا عليها في هذه الدراسة (العرف الحربي القبلي) من خلال استعراضها وشرح مضامينها، واستخلاص المبادئ العامة التي انبثقت منها. وتسعى الدراسة من خلال ذلك إلى توثيق هذه الأعراف ونشرها، لما في ذلك من فوائد إيجابية عديدة، فإلى جانب القيمة العلمية، والمتمثلة بتوثيق جانب من تراث إنساني في طريقه للاضمحلال، هناك فوائد إيجابية أخرى تتعلق بما يمكن أن تسهم فيه هذه الأعراف من الحد من شرور الحروب التي تشتعل في اليمن بشكل دوري. حيث تحمل هذه الأعراف الكثير من الأفكار والمبادئ والإجراءات التي تخفف من أضرار الحرب، كما سيتبين ذلك في متن الدراسة.

منهجية الدراسة:

بحكم الطبيعة الوصفية/التحليلية للدراسة فقد اعتمدت الدراسة على ملاحظات الباحث ومعرفته بالشأن القبلي في منطقة الدراسة، وعلى المقابلات التي أجراها مع عدد من الأشخاص العارفين بطبيعة العرف الحربي القبلي، من شيوخ القبائل وغيرهم. وفي هذا الصدد يجب التنويه إلى أن الدراسة الأصلية لهذا البحث تمت في عامي 1999 – 2000، والتي كانت عبارة عن مسودة لبحث قُـدم للصليب الأحمر الدولي مكتب صنعاء.

نطاق الدراسة:

اقتصرت الدراسة على العرف الحربي الخاص بقبيلتي حاشد وبكيل، واللتان تعدان أكبر التجمعات القبلية، والأكثر تأثيرا في أوضاع اليمن الحالية والماضية، إلى جانب أنهما من القبائل التي لا زالتا محافظتان على بنائهما القبلي نسبتا إلى القبائل الأخرى.
وقد حرصت الدراسة على التعريف بالعرف الحربي القبلي في صيغته الأصلية، والتي كان يعمل بها في الفترة التي سبقت التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في منطقة الدراسة منذ عام 1962.
فمنذ ذلك التاريخ حدثت تغيرات واسعة في المناطق القبلية أثرت بشكل أو أخر على بعض الجوانب في العرف الحربي. ومع ذلك؛ فإن الكثير من المبادئ والقواعد العامة لهذا العرف لم تتغير.



يعتبر البعض أن جميع سكان اليمن ينتمون إلى تجمعات قبلية، وهذا الأمر غير صحيح من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فالقبيلة في صورتها النموذجية هي بنية ذات صفات محددة، تجعلها مختلفة عن المكونات الاجتماعية الأخرى. فالمجتمع القبلي - في صورته النموذجية - له خصائص اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية معينة فهو عبارة عن: تجمع من الأفراد تربطهم علاقة نسب أبوية، ويعيشون في منطقة جغرافية ذات حدود واضحة يمارسون داخلها سلطاتهم باستقلالية نسبية عن أي سلطة خارجية من خلال زعمائهم الذين يختارون من بينهم، وينظم شئون حياتهم عرف خاص بهم.
ومن خلال هذا التعريف فإن من يمكن وصفهم بالتجمعات القبلية من سكان اليمن هم  سكان مناطق الجبال والهضاب المحيطة بالعاصمة صنعاء من جميع الجهات تقريبا، وبعض المناطق الجبلية والصحراوية المحاذية لصحراء الربع الخالي. يضاف إلى هؤلاء؛ بعض سكان المناطق الفقيرة والمعزولة القريبة من المجتمعات الزراعية، في مناطق تهامة وتعز وحضرموت ولحج وأبين. وتختلف درجة الصرامة القبلية بين هذه المجتمعات تبعا للوضع الاقتصادي والتضاريس والموقع الجغرافي. حيث نجد أن النزعة القبلية تشتد في المناطق الأفقر اقتصاديا، والمعزولة جغرافيا، والأصعب تضاريسا، والأقل تعليما.     
ومن خلال ما سبق يمكن تحديد عدد من العوامل التي تساهم بشكل مترابط في تشكل المجتمع القبلي واستمراره، والتي يمكن اختصارها في العوامل التالية:
1-  الاستقلال السياسي:
توجد القبيلة حيث تغيب أو تضعف الدولة، هذه هي أهم حقيقة يدركها كل المختصون بشئون القبيلة؛ فالنظام القبلي لا يمكن له أن يعمل إلا في ظل استقلالية، ولو نسبية، عن سيطرة أي قوة خارج القبيلة. فالقبيلة هي وحدة سياسية مستقلة عن أي سلطة أخرى، وتتمظهر هذه الاستقلالية من خلال اختيار الزعماء من قبل أفراد القبيلة، والاحتكام إلى أعراف خاصة تنظم كل أو معظم شئون القبيلة. وحين تفقد القبيلة الاستقلالية، تتحول إلى مكون اجتماعي أخر، ينطبق عليها وصف المجتمعات الزراعية الإقطاعية أو شبه إقطاعية، كما هو الحال في المناطق الزراعية في مناطق إب وتعز وتهامة ولحج وأبين وحضرموت، وغيرها من المناطق التي تُحكم من قبل شيوخ/سلاطين لا ينتمي أغلبهم إلى المناطق التي يحكمونها، ووصلوا للزعامة إما بدعم السلطات المركزية ذات المنشأ المحلي أو الخارجي، أو عن طريق الغزو من المناطق القبلية.



2-  قرابة الدم: 
تتميز المجتمعات القبلية عن غيرها بأن الرابط الأصلي الذي يجمع أعضائها، بما فيهم الزعماء، يقوم على رابط الدم وعلاقات القرابة الواضحة، فالوحدة القبلية، وخاصة الصغيرة منها، تقوم على فكرة ارتباطها بجد مشترك (حقيقي أو أسطوري) ينتسب إليه جميع أفراد القبيلة. وكل من لا ينتمي لهذا الجد لا يعد عضوا في القبيلة ولا يتمتع بنفس الحقوق والواجبات – كما سنشير له في مواضيع أخرى – باستثناء أولئك الأشخاص الذين تم دمجهم في القبيلة ضمن إجراءات سنشير لها لاحقا.
3-  الحدود الجغرافية الواضحة:
جميع القبائل في اليمن – باستثناء بعض القبائل القليلة التي تتصف بالترحال – لديها أرض خاصة بها وحدود متعارف عليها، تمارس عليها ما يمكن تشبيهه بحالة السيادة، إلى جانب ذلك؛ هناك أراضي مشتركة تتقاسم منافعها، قبيلة أو أكثر وفق اتفاقيات خاصة.
4-       شح الموارد:
هناك علاقة عكسية بين حجم الموارد والنزعة القبلية فكلما كان هناك نقص في الموارد الاقتصادية، كانت النزعة القبلية شديدة والعكس صحيح، فالمناطق القبلية هي تلك المناطق التي تعاني من ندرة المياه نتيجة شح الأمطار، ومن ثم فإن اقتصادها هو في الغالب اقتصاد يتراوح ما بين الكفاف والندرة والعجز، وكل تلك العوامل تجعل من هذه المناطق دون فائض حقيقي في الثروة. واقتصاد من هذا النوع يقوي روح التضامن الجمعي، ويخلق النزعة الحربية، والتي يكون هدفها الدفاع عن الموارد الشحيحة أو غزو المناطق الغنية لسد العجز، أو تأجير مهاراتهم الحربية لأطراف الصراعات السياسية.
5-       العزلة الجغرافية، ووعورة التضاريس:
تساهم العزلة الجغرافية ووعورة التضاريس في تشكل النظام القبلي، فمن خلالهما تتمكن القبيلة من الاستقلال السياسي وحماية نفسها من الوقوع تحت سلطة خارجية، فالكلفة الباهظة التي تتطلبها السيطرة على المناطق المنعزلة في المناطق الوعرة، إلى جانب الفقر الاقتصادي، تعملان على إبعاد السلطات من السيطرة على المناطق القبلية، وهو ما يساهم في منح التجمعات القبلية الاستقلالية السياسية التي تحتاجها لإدارة نفسها.
6-  التخلف الحضاري:
تتصف المناطق القبلية – في صورتها النموذجية – ببدائيتها؛ فطرق الإنتاج متخلفة ويدوية في الغالب، وينتشر الجهل بشكل واسع بين أفراد القبيلة، وتفتقر إلى المرافق العامة والخدمات الضرورية. وهذه المظاهر تعمل على ديمومة النظام القبلي وإعادة إنتاجه.

الخصائص العامة للقبيلة

البنية التنظيمية:

تتشكل القبيلة من الأدنى إلى الأعلى وفقا للاتي: الأسرة، ثم العشيرة والتي تتشكل من عدة اسر، فالقبيلة الأصلية، والتي تتشكل من عدة عشائر، ومن ثم التجمع القبلي والذي يتشكل من عدد من القبائل، وأخيرا الاتحاد، أو التجمع القبلي، كاتحاد قبائل حاشد واتحاد قبائل بكيل، واللذان يتشكلان من عدد من التجمعات القبلية.
 ولترجمة هذه الصورة على الواقع القبلي في اليمن نجد أن اتحاد قبيلة بكيل يتشكل من عدة تجمعات قبلية مثل تجمع قبائل خولان وسفيان وارحب ونهم وذو حسين وذو محمد وعيال سريح وعيال يزيد وغيرها من التجمعات القبلية. وكل تجمع من هذه التجمعات ينقسم إلى عدد من القبائل، والتي تتمتع كل واحدة منها بشخصية اعتبارية خاصة، وباستقلالية كاملة عن الوحدات القبلية التي يتشكل منها التجمع.
فقبيلة ذو حسين، والتي هي عبارة عن تجمع قبلي؛ تنقسم إلى ثمانية أجزاء، يسمى كل جزء ثمين، والثمين هو بمثابة قبيلة أصليه ذات استقلالية كاملة وشخصية اعتباره خاصة. وتنقسم  القبيلة الأصلية إلى عدة أجزاء تسمى لحام، والذي يتشكل من عدة أجزاء تسمى أبدان، والذي يتشكل من عدد من الأسر.
ويلاحظ أنه كلما ازداد عدد سكان القبيلة انقسمت من جديد إلى قبيلة جديدة، وهو الأمر الذي يشير إلى الطبيعة الانقسامية للمجتمع القبلي في اليمن.
وسينصب تحليلنا على الوحدة القبلية الرئيسية، كونها تعد فعلياً الوحدة المتجانسة الحقيقية في البناء القبلي. فهذه القبيلة لها استقلاليتها وشخصيتها الاعتبارية، كما سبق القول، والتي تميزها عن القبائل الأخرى بما فيها التجمع القبلي الذي تنتمي إليه. بمعنى أخر أن القبيلة الأساسية هي تلك الوحدة التي تعيش في رقعة جغرافية محددة، بالنسبة للقبائل الزراعية المستقرة، وهذه الرقعة الجغرافية تعتبر منطقة السيادة للقبيلة تمارس فيها كل نشاطاتها. وهذه الأرض تعد حكراً لها لا يجوز للآخرين، بمن فيهم القبائل الأخرى من نفس التجمع، ممارسة أي نشاط اقتصادي أو حربي إلا بموافقتها. وكل فعل أو سلوك تقوم به تتحمل مسئوليته وحدها.

السلطة السياسية:

تتشكل القبيلة من عدد من الوحدات الفرعية، تسمى في بعض المناطق فخذ وفي البعض الأخر حبل، أو بدنة، ولكل هذه الوحدات زعيم كان يسمى في معظم مناطق حاشد وبكيل بالعاقل، وفي الوقت الحالي يتسمى الكثير من العقال باسم الشيخ، إلا أن صفة الشيخ[1] الأصلية والفعلية تطلق في معظم مناطق حاشد وبكيل على شيخ القبيلة الأصلية والذي يعرف بشيخ الضمان.
ومن الناحية النظرية يحق لأي ذكر راشد في القبيلة أن يصبح عاقل أو شيخ لأي وحدة من هذه الوحدات، غير أن التربع الفعلي لهذا المنصب يتطلب تأييد ومباركة الأفراد التي تتكون منها الوحدة، بحيث يبدو بأن من يحصل على الأغلبية هو من يحصل على صفة الشيخ، والأغلبية المذكورة هنا لا تشبه الأغلبية في النظم الانتخابية الحديثة؛ فآلية الترشح والانتخاب لمنصب الشيخ تتم بشكل مختلف تماما عن النظم الانتخابية الحديثة، حيث نجدها خليط من عملية وراثية وتزكية وترشيح. وفي كل الأحوال فإن منصب الشيخ عادة ما ينحصر في أسرة معينة، إلا انه يبقى مرتبطا بالقبول الطوعي للأفراد الذين بإمكانهم أن ينقلوا ولائهم من شيخ إلى أخر داخل القبيلة أو حتى من خارجها وفق ما يسمى "المواخاة" والذي سنشير له لاحقا.
وفي الوقت الحالي فإن الكثير من القبائل تشهد تعدد المشايخ داخل كل عشيرة وقبيلة، وتلعب العوامل الخارجية، كدعم السلطة، أو تملك موارد مالية، أو الارتباط بطرف سياسي قوي، أدوار مهمة في تقوية مركز هذا الشيخ وإضعاف ذاك.
وعلى مستوى القبيلة يعد ما يسمى بشيخ الضمان أعلى منصب في القبيلة، ويحصل هذا الشيخ على هذا المنصب من خلال حصوله على دعم غالبية العقال/المشايخ الفرعيين، وتعميد السلطة الحاكمة وتعاملها معه، وفي الغالب يتم توارث هذا المنصب داخل بعض الأسر الكبيرة على مستوى القبيلة.
 وأما منصب شيخ المشايخ في المستويات الأعلى كالتجمع القبلي أو الاتحاد القبلي، فإنها تظل غير محسومة في معظم القبائل باستثناء قبيلة حاشد، والتي تتربع أسرة الأحمر على هذا اللقب منذ فترة طويلة.
وأما السلطات التي يمتلكها الشيوخ على أفراد قبائلهم – في الحالة النموذجية[2] - فإنها سلطات محدودة وتعتمد على احترام وقبول الأفراد بالتنفيذ الطوعي للأوامر والطلبات التي تصدر عن الشيوخ، والتي تتطلب التشاور والاتفاق مع المشايخ الفرعيين (العقال) حتى يكون لها قوة الإلزام المعنوي، والمادي في بعض الحالات.



الحرب في المجتمع القبلي

أن نظرة بسيطة لهيئة وشكل رجل القبيلة في اليمن تعطينا تصورا أوليا عن علاقته بالحرب، فالهيئة النموذجية للقبيلي (رجل القبيلة) تظهره على هيئة شخص مسلح، فالزي التقليدي للقبيلي يشتمل على الجنبيه[3]، والبندقية العادية أو الآلية والمسدس، وفي بعض المناطق يضاف لها خزنات الرصاص، والقنابل اليدوية. وهذه الهيئة يتصف بها معظم رجال القبائل في مناطقهم، خاصة رجال القبائل البدوية. وبشكل عام لا يمكن أن تجد قبيلي بدون سلاح إلا في السجن.
هذا التمسك الشديد بالأسلحة يعكس البيئة الثقافية/الاجتماعية التي أنتجت هذا السلوك، ففي بيئة ذات موارد محدودة وتغيب فيها السلطة الحكومية. يكون الحذر والخوف هو المسيطر على أفراد هذا المجتمع فالكل يظل في حالة استنفار وتوقع لعدو ما.
ويعتبر السلاح في الثقافة القبلية جزء من شرف القبيلي وكرامته، فالعرف القبلي يحتقر الأفراد الذين يسمحون لغيرهم بسلب سلاحهم، فالقبيلي وفق هذه الثقافة؛ علية أن يموت على أن يسمح لأحد بانتزاع سلاحه. أما سلب السلاح من القبيلي عنوه حين يكون في حمى قبيلة أخرى فأنه يعد من العيوب[4]، ويسمى "الشقذ"، والذي يتطلب اعتذار وغرامة على الطرف الذي قام به.
وحتى في حالة الأسر فإن بعض القبائل تتجنب تجريد الأسير من سلاحه بشكل كامل، ما لم يكن هناك موجبات لذلك، كما أن من العيب أن يتم سلب سلاح القبيلي أثناء احتجاز سيارته أثناء ما يسمى بالقطاع[5].

وللسلاح دلالات كثيرة في الثقافة القبلية فهو يستخدم بمثابة ضمانات في أثناء عملية التقاضي، أو إبداء الاعتذار أو الاعتراف بارتكاب عيب أو فعل مخالف للعرف.
وبما أن القبيلي يحرص كل الحرص على حمل، وهو ما يساعد على انتشار السلاح؛ فأن الأعراف القبلية تنظم بشكل دقيق عملية استخدام السلاح، أو حتى مجرد التهديد باستخدامه. حيث نجد كم هائل من الضوابط التي تمنع استخدام السلاح؛ فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن للقبيلي أن يستخدم سلاحه أو يلوح باستخدامه في الأماكن العامة كالأسواق والساحات العامة. فلمس الجنبية على سبيل التهديد يعتبر عيب يستوجب العقوبة لمن وجه له التهديد، وللمنطقة التي تم فيها. ولكل منطقة، والتي تسمى (ساحة) حرمه لا يجوز استخدام السلاح أو التهديد باستخدامه، وعلى من يقوم بذلك أن يدفع غرامة للساحة، حتى وأن كان سبب الاستخدام خلاف تم بين أطراف من خارج سكان الساحة.
وإذا كان عشق القبيلي للسلاح يعطينا فكره عن الطابع الحربي للقبائل فأن هناك مظاهر أخرى في الثقافة القبلية تؤكد ذلك والتي نجدها في المعمار والفنون والمظاهر العامة للحياة في مناطق القبائل. فعلى سبيل المثال نجد الطابع الحربي واضح في تصميم المنازل والقرى في المناطق القبلية، فمنزل القبيلي "النموذجي" هو ذلك المنزل الذي تغيب عنه الفتحات الواسعة في الأدوار السفلية، إلا من فتحات لخروج فوهات البنادق. وأما تصميم القرى النموذجي فيشير إلى الحرص على أن تبنى على قمم الجبال، ويكون لها في الغالب أسوار كالقلاع.
إلى جانب ذلك؛ نجد أن كل مظاهر الحياة الثقافية والفنية للقبائل متأثرة بالطابع الحربي فـالـ "الزامل" - أحد أهم الأناشيد الجماعية التي يؤديها رجال القبائل- تعبر معاني كلماته عن قيم الفخار والبطولة والمجد، وتعكس طريقة أدائه رموزا حربية واضحة. وأما رقصة "البرع" – أهم الرقصات الذكورية في اليمن - فهي رقصة حربية بكل معنى الكلمة، فقرع الطبول والتلويح بالجنبيه، والإشارات التي ترافقها؛ تشير كلها إلى معاني ورموز حربية واضحة.
وقد أتت هذه المظاهر الحربية انعكاسا لواقع اجتماعي واقتصادي وسياسي عاشته هذه القبائل، ولا زالت تعيشه حتى الآن، جعلت من الحرب جزء من الواقع المعيشي الدائم. وهو ما يمكن إرجاعه للأسباب الآتية:
1-     بحكم أن القبائل في اليمن هي أشبه بكيانات مستقلة ولا تخضع لسلطة قادرة على إجبار الجميع للتقيد بالقوانين التي تصدر عنها؛ فإن الحرب هي أحد مظاهر العلاقة فيما بين هذه الكيانات.
2-     من المعروف أن شح الموارد يزيد من حدة الصراع عليها. وكما أشرنا سابقا؛ فأن الموارد في المناطق القبلية من الشح بمكان إلى الحد الذي لا يكاد يكفي حاجة السكان، ويصل في فترات الجفاف، وهي الظاهرة التي تشهدها اليمن بشكل دوري، إلى حد المجاعة. وهذا الوضع يخلق حالة من الصراع الدائم على الموارد النادرة والمحدودة، وهو ما يجعل السكان في حالة استنفار دائم  من أي طامع في هذه الموارد الشحيحة. والذي قد يكون أخ قريب، أو عدو متربص من خارج القبيلة.

3-     كما هو معروف فأن القبائل الزراعية تمتلك موارد أكثر من القبائل البدوية. مما كأن يعرضها لعمليات السلب والنهب من قبل القبائل البدوية؛ وهو ما استدعى أن تظل القبائل الزراعية في حالة استعداد واستنفار دائمين كي تحافظ على ممتلكاتها من أي عمليات نهب من الممكن أن تتعرض له من القبائل الأكثر فقرا منها. والتي تعودت على أن تسد عجزها الدائم من الغذاء عن طريق، غزو ونهب المناطق الزراعية الأغنى منها، وتحديدا تلك التي تمتلك فائض.

4-     بحكم الاستقلالية التي يعيشها القبيلي كفرد أو كقبيلة؛ فأن المحافظة على هذه الاستقلالية تتطلب أن يكون القبيلي والقبيلة في حالة تعبئة حربيه دائمة. لمواجهة أي تهديد قد يتعرض له من أي سلطة راغبة في إخضاعه، أو إخضاعها. ويحدثنا التاريخ عن المقاومة الشرسة التي أبدتها القبائل للقوات التي حاولت السيطرة عليها خلال التاريخ؛ كما حدث مع القوات العثمانية التي حاولت أن تخضع هذه المناطق لسيطرتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتدخل العسكري المصري في ستينات القرن الماضي. فخلال تلك المحاولات تكبدت تلك القوات خسائر كبيرة دون أن تتمكن من بسط سلطتها على هذه المناطق.

5-     تساعد الطبيعة الوعرة في المناطق التي تسكنها القبائل على سهولة الدفاع عنها؛ حيث تمكنهم الجبال العالية، والصحاري المقفرة، من إيقاع الخسائر بأي قوات نظامية تحاول أن تتمركز في هذه المناطق، من خلال حرب عصابات تكون مرهقة ومكلفة لآي قوات قادمة من خارج هذه المناطق، بما في ذلك قوات الحكومات المحلية.

6-     حُـكمت أجزاء من اليمن وتحديدا المناطق الزيدية[6] لأزيد من ألف عام (284هـ - 1382هـ) بواسطة الأئمة الزيديين، والذي أتصف حكمهم بعدم الاستقرار والضعف. فقد أفتقر معظم الحكام الزيديين إلى جيش نظامي وكانوا يلجئون لرجال القبائل في بسط سلطتهم، وفي صراعاتهم السياسية الدائمة، وهي الصراعات التي ساعد المذهب الزيدي في انتشارها.
فوفقا لهذا المذهب؛ فإن من حق كل الذكور الراشدين الذي ينحدر نسبهم من الحسن والحسين أبناء علي أبن أب طالب، أو ما يسموا بـ (البطنين)[7]، إدعاء الإمامة، حتى في حال وجود إمام قائم[8]. وقد ناسب هذا الأمر طبيعة القبائل اليمنية، وبدأ وكأنه قد صمم لهم خصيصا، فكثرة التنازع على منصب الإمامة وفرت للقبائل فرصة تأجير خدماتهم الحربية للأئمة المدافعين عن سلطاتهم، وللمدعين بالإمامة. وقد ساهم هذا الأمر في تصعيد النزعة الحربية لدى القبائل كي يتم تأجيرها للمتصارعين على الإمامة، لقاء المال أو الوعود بنهب المدن التي يحتمي فيها الخصم، أو اقتطاع مناطق نفوذ في المناطق الزراعية الغنية للمشايخ.
ووفقا لذلك؛ فإن القبائل هم أشبه ما يكونوا بمحاربين للإيجار، حيث يقدمون خدماتهم لمن يدفع لهم. وهذه الصفة لا زالت ملازمة للقبائل حتى الآن، فخلال المائة عام الماضية أشترك رجال القبائل في كل، أو معظم الصراعات والحروب التي شهدتها اليمن، وأخرها الحرب الدائرة الآن (2016). والقبيلي بهذا المعنى يتعيش من الصراعات السياسية، ومن الحروب، فهذه الأوضاع هي بمثابة مواسم رزق كونها تمده بالمال والأسلحة والاهتمام، والوظائف والمناصب للزعماء.
وقد ساعدت البيئة الفقيرة التي يعيش فيها معظم القبائل، وطبيعة النشاط الاقتصادي على ترسيخ تلك الوضعية، فرجال القبيلة هم في حالة تعطل جزئية أو دائمة، وخاصة في المناطق البدوية، ففي هذه المناطق تقوم النساء والأطفال بعملية الرعي ويبقى الرجال عاطلين عن العمل بشكل فعلي، باستثناء حالات رعي الجمال الذي يقوم بها الرجال كونها تتطلب الذهاب لمسافات بعيده. فحتى المهن الحرفية، والزراعة، لا يقوم بها القبيلي البدوي، ويعدها أعمالا وضيعة، وبالتالي فأن القبيلي البدوي يعتبر فعليا متعطلا عن العمل، إلا من مهنة الحرب، إن صح اعتبارها مهنة.
ويزيد من روح المغامرة وحب القتال عند القبيلي؛ الوضع القاسي الذي يعيشه من شظف العيش وقلة المباهج مما يعني أن فقدان الحياة لا تعني  خسارة كبيرة بالنسبة للقبيلي الذي يعتبر عمليا غير متمتع بها.
 
من كل ذلك نستطيع أن نستنتج أن الحرب تعتبر سلوكا دائما في المجتمعات القبلية فرضته الظروف المناخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.



في المناطق التي توجد فيها سلطة فاعلة، تتولى هذه السلطة تسيير شئون الناس الخاضعون لسلطتها من خلال القوانين التي تصدرها أو تعتمدها (أحكام الشريعة الإسلامية مثلا) وعبر القوة القاهرة، ومن خلال أجهزة التقاضي، والضبط، والتنفيذ (القضاء – الشرطة – الجيش). وفي المناطق التي لا تخضع لسلطة، أو أن السلطة ضعيفة وغير قادرة أو غير راغبة في فرض سلطتها الملزمة؛ فإن السكان عادة ما ينشئون لأنفسهم أعراف تنظم شئونهم وتحل المشاكل التي تنشا فيما بينهم. 
وبما أن مناطق عديدة في اليمن - للأسباب التي سبق ذكرها - قد افتقدت، ولا زال بعضها يفتقد حتى الآن، للسلطة الإلزامية القاهرة؛ فإن هذه المناطق قد كونت لنفسها أعرافا خاصة لتنظيم حياتها وحل خلافاتها. وأهم هذه الأعراف تلك المتعلقة بتنظيم الحروب القبلية، والتي تعد أحد المخرجات الطبيعية للواقع السياسي/الاجتماعي/الاقتصادي للمجتمعات القبلية.
وقد ظهرت هذه الأعراف كحاجة وجودية بهدف التخفيف من الآثار المدمرة للحروب، التي لا يمكن إلغائها في هكذا مجتمع، فالحرب في المجتمعات القبلية هي نتاج طبيعي لهذه المجتمعات، ويصعب تجنبها.
وبما أن الأمر على ما ذكرنا؛ فقد أرشدت السليقة الطبيعية هؤلاء إلى ابتكار وسائل تخفف من الصفة التدميرية للحرب عبر القواعد التي تُـرشد وتانسن الحرب وتجعل أضرارها في الحدود الدنيا.
وقبل الدخول في وصف وتحليل للعرف الحربي القبلي ينبغي الإشارة إلى الفرق بين القانون والعرف، والذي يمكن ذكره في النقاط التالية:
1- القانون ينشى من خلال سلطة حاكمة، فيما العرف ينشى من خلال الأفراد والجماعات التي تتعامل به، ويتم ذلك من خلال الاتفاقيات التي تبرم فيما بينهم، أو الأحكام التي يتم التوصل لها في حل الخلافات والتقاضي. وتشكل الاتفاقيات الشفهية أو المكتوبة، وأي حكم جديد يصدر عن محكمين قبليين بمثابة قاعدة عرفية جديدة.
2- يتصف القانون بصفة الجمود، حيث أن القواعد القانونية تبقى سارية حتى يتم تغييرها أو تعديلها من قبل سلطة حاكمة، فيما يتصف العرف بالمرونة، فالأعراف متغيرة بحسب الزمان والمكان، ووفقا للحاجة والظروف المتغيرة.  
3- للقانون صفة الشمول، والتجريد، فتطبيقه يشمل جميع السكان والمناطق التي تخضع للسلطة التي أصدرته، فيما يأخذ تطبيق العرف الطابع الخاص في الزمان والمكان.   
4- يتطلب تطبيق القانون وجود قوة قهرية لتطبيقه (شرطة ، جيش) بينما تطبيق العرف يتم برضاء الأطراف المتخاصمة، وعبر وسائل إلزام رمزية ومعنوية، ومن النادر أن يتم تطبيق القانون بصفة قسرية، لغياب الطرف المخول من الجميع بتطبيقه.
5- تتأثر القواعد القانونية بمصالح ورغبات وثقافة الحاكم أو الطبقة الحاكمة، وهو الأمر الذي يجعل القواعد القانونية متحيزة لصالح الجهة التي أصدرته، في المقابل نجد أن العرف يأخذ طابع التوافق والحلول الموضوعية للأطراف التي تقبل القبول الطوعي له.
6- القواعد القانونية غالبا ما تكون مكتوبة، وتصدر عبر صك شرعي ممهور بختم أو توقيع الحاكم أو المجلس الذي أصدره، فيما العرف يبقى في الغالب غير مكتوب ومحفوظ لدى الجماعة التي تتعامل به، وتحديدا النخبة منها، والتي تتولى إدارة الشأن العام والتقاضي، وحتى في حال كان هناك قواعد عرفية مكتوبة فإنها في الغالب تكون متنوعة، ومتغيرة، وغير متطابقة، وعادة ما تكون مكتوبة للتعامل مع حالة أو حالات في فترة تاريخية محددة، ولمنطقة معينة.
يستند العرف الحربي القبلي على مبادئ معينة يمكن استنباطها من خلال القواعد العرفية، والرموز والدلالات التي ترافق الحروب منذ اندلاعها وحتى توقفها، وفيما يلي أهم المبادئ التي استخلصت من واقع هذه الدراسة:

عدم مكافئة الغالب:

أحد تعريفات الحرب الشائعة بأنها استخدام القوة لتحقيق مكاسب يجنيها الطرف المنتصر على حساب الطرف الخاسر؛ غير أن العرف الحربي للقبائل اليمنية لا يقوم على هذا الأساس، فالمنتصر، ونقصد به هنا الطرف الذي يتمكن من إلحاق خسائر بشرية ومادية في خصمه، لا يحصل على أي مكاسب من ذلك، بل العكس هو الصحيح؛ حيث نجد أن كل الخسائر التي يوقعها في خصمه تتحول إلى دين، عليه أن يسدده للطرف الأخر، وفق قاعدة (السلف والقضاء)[9]، فوفق هذا المصطلح فإن أي خسائر بشرية أو مادية يتسبب بها أي طرف تتحول إلى دين عليه أن يسدده بنفس الحجم والمقدار، وربما أكبر[10].
فعلى سبيل المثال؛ حين تنشب حرب بين القبيلة (أ) والقبيلة (ب) وينتج عنها قتل 10 أشخاص من القبيلة (أ) و 5 أشخاص من القبيلة (ب) فإن النتيجة لذلك؛ اعتبار القبيلة (ب) مدينة بخمسة أشخاص، وتوصف حينها بالقبيلة (المنقوصة) ولا يسقط هذا الدين إلا بقيام القبيلة (أ) بقتل خمسة أشخاص من القبيلة (ب). فيما الخسائر المادية تستوجب التعويض الكامل من الطرف الذي تسبب بها.
ووفقا لهذا المبدأ فإن الحروب القبلية لا ينتج عنها أي تغيير للحدود القبلية المتعارف عليها، فليس بمقدور أي قبيلة أن تحتل أراضي الطرف الأخر عبر الحرب، فالحدود هنا هي ثابتة ولا يتم تعديلها عبر الحرب. ونقصد بالأراضي التي تتصف بصفة الثبات تلك التي لها استخدامات واضحة كالزراعة أو التسوق أو غيرها من النشاطات، وكذلك الأراضي التي تم الاعتراف بسيطرة قبيلة ما عليها وفق اتفاقات سابقة مع القبائل المجاورة.    
أن مبدأ عدم مكافئة المتغلب يفقد الحرب أهم وظائفها وأهدافها، فكون الطرف القوي لا يتمكن من فرض إرادته على الطرف الأضعف، فإن الحرب هنا تتحول إلى سلوك يهدف إلى رد الاعتبار على إهانة ما أو الثأر بغرض تصفية حساب سابق، أكثر من كونها سلوك لفرض الإرادة والإذلال. 
ويمكن التكهن بأن شيوع هذا المبدأ قد انبثق من مبدأ أشمل وأعمق وهو مبدأ حق الحياة للجميع وعدم جواز إلغاء أو انتقاص حق الأخر في العيش بحرية وكرامة. ويبدو أن هذا المبدأ قد تأسس من حالة التجانس العرقي والديني لهذه القبائل، فالقبائل اليمنية تعتقد أن أصولها العرقية تعود إلى جد مشترك واحد، وهو ما يعني بأن جميع القبائل ترتبط برباط دم، الأمر الذي يؤكد على حالة الندية والمساواة بين جميع القبائل.
إضافة إلى ذلك ساعد التجانس الديني ترسيخ هذه المبادئ؛ فجميع القبائل اليمنية تعتنق الإسلام، رغم اعتناقها لمذاهب متعددة (الزيدي والشافعي والإسماعيلي[11])، ومع ذلك لم يعمل هذا التعدد المذهبي على خلق حالة من التمايز القبلي، وفقا للمذهب الديني.

ومن المحتمل أن تلك العوامل ساعدت على رسوخ مبدأ عدم مكافأة المنتصر؛ فالاعتقاد بأن الطرف الأخر هو أخ أو أبن عم، ومؤمن بنفس الدين؛ يجعل الحرب لا تصل حد الإبادة أو الإذلال والانتقاص.            

التضامن الجمعي وغياب المسئولية الفردية:

تتأسس القبيلة على فكرة الوحدة العضوية لجميع أفراد القبيلة، حيث تصبح القبيلة كيان له شخصية اعتبارية محددة، ومسئولية مشتركة تجاه الغير. ووفقا لذلك؛ تتحمل القبيلة مسئولية أي فعل أو سلوك يترتب عليه حقوق تجاه الغير صادر من أي فرد من أفرادها. وفي نفس السياق؛ تتضامن القبيلة بشكل تلقائي ضد أي اعتداء يقع على أي فرد من أفرادها، حيث يعتبر ذلك الاعتداء موجه ضد جميع أفراد القبيلة. والقبيلة بهذا المعنى هي أشبه بكيان حمائي لأعضائها يتجلى بشكل واضح خلال الحروب والكوارث الطبيعية.
ومن خلال الإطلاع على العرف الحربي نجد أن هناك تغيب للمسئولية الفردية والتركيز بدلا من ذلك على المسئولية الجمعية التضامنية، وهو ما قد يوحي بأن هناك استلاب للشخصية الفردية لصالح الجماعة، وهو أمر غير دقيق؛ فالبنية القبلية تقوم على ما يشبه الاتحاد الطوعي بين أفراد أحرار تنازلوا عن جزء من ذواتهم لصالح الجماعة مقابل الحماية. وما يجعل الأمر على ذلك النحو؛ حجم وطبيعة السلطة داخل القبيلة، فشيخ القبيلة هو بمثابة كبير العائلة الذي يتم تفويضه من أفراد العائلة الذكور وفقا للأعراف السائدة، على أن يدير شئون القبيلة وتمثيلها تجاه الغير بالتشاور مع بقية أعضاء القبيلة وتحديدا عقال وشيوخ الأسر والوحدات الأصغر داخل القبيلة.
ويتجلى تفعيل هذا المبدأ بشكل كبير أثناء الحروب، فالمسئولية تجاه الغير تتحملها القبيلة بشكل تضامني، وهو أمر ضروري لحماية أفراد القبيلة، من خلال تحمل القبيلة مسئولية أي فعل يقوم به أحد أفرادها؛ حين توفر له الحماية من إي ملاحقات تتم من قبل أطراف خارجية، والمشاركة في دفع أي غرامات تفرض عليه.
كما أن مبدأ التضامن الجمعي، يتجلى في سلوك الأطراف الأخرى أثناء الحروب والنزاعات الفردية، حين تقوم هذه الأطراف بالانتقام أو الاقتصاص من أي فرد ينتمي للقبيلة التي بدر منها فعل يستوجب ذلك.    

      الندية:

يتعامل العرف الحربي مع جميع القبائل بندية تامة؛ فكل القبائل مهما بلغ حجمها من الصغر أو الكبر لديها نفس الحقوق وعليها نفس الواجبات. فالقبيلة الكبيرة ليس لها أي حقوق أو امتيازات خاصة حين تدخل في حرب مع قبيلة مهما بلغ صغر حجمها. ويساعد النظام القبلي على تكريس مبدأ الندية من خلال مرونة التحالفات، والذي تتمكن بموجبه القبائل الصغيرة، وكذلك الأفراد، من التحالف مع قبائل كبيرة، وفق آلية "المواخاة"[12].
ويتضح مبدأ الندية في جميع الأفعال والرموز التي تصاحب الحرب، فحين يتم أخذ الضمانات المادية مثلا؛ فإن كل طرف ملزم بان يضع نفس حجم الضمانات التي تطلب من خصمه. كما أن احتساب الخسائر البشرية والمادية تتم بشكل متساوي، فالقتيل من هذا الطرف أو ذاك هو دين على القبيلة التي قتلته، وهكذا الحال بالنسبة للخسائر المادية، والتي يتحمل المتسبب في دمارها بالتعويض عنها.   

تحجيم الأضرار:

كما سبق وأشرنا في أكثر من مناسبة؛ فإن العرف الحربي أتى لينظم الحروب ويخفف من شرورها، وهو ما يجعلنا نستنتج بأن مبدأ تحجيم الأضرار يقف خلف الكثير من الضوابط المنظمة للحرب. وأهم هذه الضوابط اقتصار الحرب على من يحمل صفة المحارب وهو "القبيلي"[13]، فيما غير المحاربين، يتمتعون بحماية تتيح لهم الحركة في مناطق النزاع. إلى جانب ذلك؛ يحصر العرف الحربي مسرح العمليات بمناطق معينة، وهي أراضي القبائل المتحاربة فقط، فيما يتم منع الحرب في الأسواق، والطرقات المودية لها، وأراضي القبائل الأخرى.

التوازن الدائم:

عمل النظام القبلي في المناطق التي شملها البحث، على خلق حالة من توازن القوى الدائم، ويتم هذا الأمر من خلال حالة الانقسام الدائم للقبائل، ومرونة التحالفات. فمن خلال الانقسام القبلي والذي يتم حين تكبر القبيلة ومن ثم تنقسم إلى عدد من القبائل الجديدة، ذات الكيان المستقل والشخصية الاعتبارية الخاصة. ويتم الانقسام في الغالب نتيجة لعوامل اقتصادية/اجتماعية/سياسية فشح الموارد الاقتصادية في المناطق القبلية يجبرها على أن تنتشر في أراضي جديدة، غالبا ما تكون مجاورة للمنطقة الأصلية للقبيلة التي انقسمت عنها، حيث يساعد هذا الانتشار على استصلاح أراضي جديدة، بدلا من المزاحمة على الأراضي السابقة، والتي كانت غلتها ثابتة تقريبا قبل وصول التكنولوجيا الحديثة في الزراعة والري وحفر الآبار.
كما أن العوامل الاجتماعية/السياسية تساهم في كثرة الانقسامات القبلية، فالوحدة القبلية تتصف بالبساطة، ولا تقبل التعقيد والتنوع والكثرة؛ وهي عوامل تتطلب بنية اجتماعية/سياسية مختلفة. فالقبيلة تقوم على روابط الدم الواضحة، وصغر حجم القبيلة يساعد على سهولة انضباطها وإدارتها دون أجهزة بيروقراطية تتطلب موارد لا يوفرها مجتمع الكفاف والندرة الذي هو أساس الاقتصاد القبلي. ولهذا كله؛ نجد أن القبيلة في صورتها النموذجية كانت في حالة انقسام دائم، وهو الأمر الذي جعل معظم الوحدات القبلية ذات أحجام سكانية متقاربة، الأمر الذي ساعد على خلق حالة من توازن القوى الدائمة.
وإلى جانب ذلك؛ ساهم نظام "المواخاة" – الذي أشرنا له سابقا – على تعزيز مبدأ توازن القوى، فالقبائل وكذلك الوحدات الأصغر (الحبل ، البدنة ، العشيرة) وحتى الأفراد يستطيعون بموجب هذا النظام من الاحتماء بقبائل أخرى في مواجهة قبيلة مجاورة أكبر منها، قد تكون أقرب لها من حيث رابطة الدم والنسب. فالقبائل الصغيرة والتي تكون مجاورة لقبيلة كبيرة تلجاء لنظام المواخاة في حال نشب بينها وبين القبيلة المجاورة حرب أو نزاع، وهو الأمر الذي يخلق حالة من توازن القوى الدائم، ويحد من عدوانية القبائل الكبيرة وغطرستها.    

 التاجيل:

تفرض الظروف الاقتصادية/الاجتماعية/السياسية على القبائل حتمية تأجيل حسم خلافاتها وترحيلها للمستقبل، فحين تحدث حرب أو قتال بين القبائل يتم اللجوء إلى الصلح والذي هو آلية لتأجيل النزاعات، كما سنشير له بتفصيل أكبر لاحقا. فوفقا لإجراءات الصلح ونتائجه؛ يتم وضع هدنة محددة يتوقف خلالها القتال لمدة محددة، لتعود الحياة إلى وضعها الطبيعي. وقد فرضت الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية على القبائل اللجوء إلى هذا المبدأ؛ فالوضع الاقتصادي لا يستحمل استمرار الحرب لفترة طويلة، وهي الفترة التي يقتص كل طرف لقتلاه وخسائره.
ويكون البديل عن ذلك فرض عقوبات مادية على الطرف الذي أرتكب "العيوب" وإعلان هدنة لمدة محددة. والنتيجة العامة لذلك هي: ترحيل للقضايا العويصة وترك حلها بشكل كامل أو جزئي للمستقبل.        



أسباب اندلاع الحروب القبلية

 كما سبق وذكرنا؛ فإن القبيلة هي كيان عضوي واحد، فأي اعتداء على أحد أفراد القبيلة، يعد اعتداء على الجميع، ويتطلب رد جماعي، استنادا إلى حالة التضامن الجمعي التلقائي. وعليه؛ فأن الحروب القبلية قد تنشا نتيجة حادث عرضي، أو خلافات شخصية بين أفراد ينتمون لقبيلتين مختلفتين، يسفر عن حالات قتل أو خسائر معنوية جسيمة، تستتبع رد من القبيلة التي أصبحت قبيلة (منقوصة). إلى جانب ذلك هناك أسباب أخرى للحروب القبلية يمكن ذكر أهمها في النقاط التالية:
1- الحوادث العرضية الناشئة عن خلافات غير مخطط لها بين أفراد ينتمون لقبيلتين مختلفتين. والشكل النموذجي لذلك؛ حدوث مشاجرة في سوق أو طريق أو أي مكان عام ينتج عنها قتل، أو إصابات خطيرة لشخص أو أكثر. وفي هذه الحالة؛ تتولى قبيلة الضحية، أو الضحايا، الحشد والهجوم لأخذ الثار من أفراد القبيلة الأخرى.
وقد جرت العادة إن يقوم أفراد القبيلتين بالتمترس والحشد، والابتعاد عن مناطق القبيلة الأخرى فور سماعهم بحادث من هذا النوع، خاصة أفراد القبيلة التي أصبح عليها "سلف" (دين) للقبيلة الأخرى. فعلى سبيل المثال حين يسفر شجار عن قتل شخص ينتمي للقبيلة (أ) على يد شخص أو أشخاص من القبيلة (ب) تصبح القبيلة (أ) منقوصة ومن حقها أن تقتل شخص من القبيلة (ب). وفي العادة فإن أفراد القبيلة (ب) يتوارون عن أنظار أفراد القبيلة (أ) فور سماعهم بالخبر، والذهاب إلى حدود قبيلتهم والشروع بالتمترس، تحسبا لأي هجوم قد تقوم به القبيلة (أ). في المقابل يتداعى أفراد القبيلة (أ) بأسلحتهم ويجتمعون لتقرير رد الفعل، والذي في الغالب يكون التوجه إلى حدود القبيلة الأخرى، وإطلاق النار، في اتجاه القبيلة (ب). وفي الغالب تتحاشى القبيلة (أ) إطلاق النار العشوائي على القبيلة (ب) خشية أن يؤدي ذلك إلى حدوث قتلى بأكثر من شخص، وحينها تتحول من قبيلة (منقوصة) إلى قبيلة (زايدة) أو أن يؤدي إطلاق الرصاص إلى إصابة شخص (مهجر) – سنوضح هذا المصطلح لاحقا – وهو ما قد يتحول إلى عيب يتطلب التعويض والاعتذار.
ولتفادي ذلك؛ تلجا القبائل إلى إطلاق النار في الهواء أو على المناطق الخالية من السكان، بينما تكتفي القبيلة (ب) بالدفاع وتفادي الظهور حتى لا يتسنى للقبيلة (أ) الاقتصاص. وفي الغالب تكون الحرب التي تنشى عقب مثل هكذا حوادث ذات صوت عالي، دون خسائر تذكر، فالقبيلة (أ) تستخدم اكبر قدر من الضجيج لتظهر بأنها تحاول الاقتصاص للمقتول، فيما القبيلة (ب) تقوم بالرد لمنعها من الاقتراب إلى النقاط الخطرة، فيما تكون أنظارها متوجهة نحو تدخل طرف ثالث للوساطة.
2- انتهاك لصلح ساري المفعول، أو بعد انتهاء مدته: كما سبق وذكرنا فإن الحلول الشائعة للحروب القبلية تتم عبر عقد صلح لفترة محددة - سنة في الغالب – ويؤدي هذا الصلح غالبا إلى قيام هدنة هشة، حيث تتوقف الأعمال الحربية وترفع الحشود والمتاريس، إلا أن كل طرف يبقى في حالة حذر، وخاصة الطرف (الزايد).
وفي الغالب؛ فإن حالات الهدنة تؤدي بشكل تلقائي إلى تضائل الاحتكاك المباشر بين أفراد القبيلتين، وتحاشي النظر في عيون بعض في الأماكن العامة، أو الالتقاء المباشر أو الحوار. كما أن بعض بنود الصلح قد تفرض قيود صارمة على تحرك أفراد القبيلتين في مناطق القبيلة الأخرى. وخلال فترات الصلح تبقى القبيلة (المنقوصة) في حالة ترصد لأخذ الثار من القبيلة الأخرى. وفي حال حدوث ذلك؛ فإن الحرب تندلع من جديد، خاصة في حال قتلت القبيلة المنتقمة عدد أكبر من الأشخاص الذي تطالب بهم، والذي يحولها من قبيلة دائنة، إلى قبيلة مدينة. وأما في حال انتقمت بنفس العدد فإنها تكون قد أخذت ما لها من حق، إلا أنه يصبح عليها دفع عيوب خرق الهدنة، والتي تكون تعويضات مادية ورمزية.
وفي كل الأحوال؛ فإن خرق الهدنة يتحول إلى عيب تتحمل القبيلة الذي ارتكبته دفع التعويض الذي يقرره الوسطاء، وأما في حال حدث الانتقام بعد انتهاء فترة الصلح فليس على القبيلة من لوم، إذا ما اكتفت بالانتقام بنفس عدد الأفراد الذي خسرتهم.

3- الصراع على أراضي أو مورد اقتصادي: في الغالب هناك حدود واضحة لكل قبيلة، وتحديدا في مناطق السكن والأراضي الزراعية، إلا أن هناك أراضي أخرى تسمى (المراهق) أو (الكلأ والملأ)  مثل المراعي ومساقي المياه والطرقات، وغيرها من الأراضي والتي تكون ملكيتها مشتركة بين أكثر من قبيلة وتنظمها اتفاقيات سابقة. وهذه الأراضي عادة ما تكون سبب في اندلاع الحروب القبلية نتيجة لعدم وضوح الاتفاقيات أو خرقها.
وفي الغالب تندلع الحروب على هذه الأرض بعد أن يصبح لها قيمة اقتصادية جديدة لم تكن تتمتع بها في السابق حين عُـقدت الاتفاقيات. فعلى سبيل المثال؛ ارتفعت القيمة الاقتصادية للمناطق التي أصبحت مناطق سكنية، أو أنها تحتوي على مواد خام أو اخترقتها طرق رئيسية، وهو الأمر الذي يخلق النزاع حول ملكيتها من قبل القبائل المتجاورة لها، والتي تدعي بأحقيتها في الاستثمار الجديد لهذه المناطق، وقد يصل هذا الصراع إلى حد الحرب.
4- إلى جانب ذلك؛ هناك قائمة طويلة لأسباب اندلاع الحروب القبلية، من قبيل الاعتداء على النساء، والذي تعد من العيوب التي تشعل الحروب، أو إهانة أفراد القبيلة، كنزع السلاح عنهم أو سرقتهم، وغيرها من الأسباب التي قد تبدو سخيفة وغير مبررة لمن ينظر لها من خارج سياق الثقافة القبلية.
         
إلى جانب ذلك؛ هناك أسباب أخرى لاندلاع الحروب القبلية، كالحروب التي تنشب بسب تدخل عوامل من خارج نطاق المجتمع القبلي من قبيل: تدخل الحكومة في دعم قبيلة ضد أخرى، أو اشتراك قبيلتين في صراع سياسي بين أطراف متنافسة، كما حدث في الستينات عندما دعمت بعض القبائل الجمهوريين، وبعضها دعم الملكيين مما أدى إلى نشوب حروب قبلية عديدة.

إجراءات بدء الحرب

على الرغم من أن الأسباب التي ذكرناها قد تؤدي إلى اندلاع الحروب بين القبائل، إلا أن تلك الأسباب لا تؤدي بشكل تلقائي إلى شن الحرب. فالعرف القبلي يشترط لبدء الحرب القيام باجرات محددة قبل بدء الحرب، وحتى لا يقع عليها لوم وتضطر لدفع غرامات لانتهاكها العرف الحربي، وفي الحالة النموذجية يشترط العرف الحربي قبل إعلان الحرب الالتزام بالخطوات التالية:  
1- بعد حدوث أي اعتداء من قبيلة أو بعض أفرادها على قبيلة أخرى، أكان هذا الاعتداء يتعلق بموارد اقتصادية أو بشرية أو رمزية، فإن القبيلة المعتدى عليها تقوم بإرسال رسالة بواسطة "ألد وشان"[14] من "شيخ الضمان"[15] لشيخ ضمان القبيلة المعتدية، وتسمى هذه الرسالة بـ - مكتوب -  والذي لا يشترط أن يكون كتابي، يطلب منه أن يقوم بالتعويض والاعتذار عن إي أضرار مادية أو رمزية أو القصاص من المعتدين من أفراد قبيلته، أو تسليمهم للقضاء الرسمي إن كان هناك نفوذ للسلطة المركزية. فإذا استجابت القبيلة "المعتدية" للمطالب، وهو ما يتوجب عليها أن ترسل أسلحة - تسمى بنادق صواب[16]- للقبيلة المعتدى عليها تكون هذه البنادق بمثابة اعتراف منها بالخطأ واستعدادها للصلح، أو خضوعها لحكم القضاء الرسمي في حال تم تسليم الجناة للجهات الرسمية.
 هذا الإجراء إن حدث فإن القبيلة الأخرى تلتزم بعدم المهاجمة حتى تحل المشكلة. وفي حال رفضت القبيلة المعتدية قبول مطالب القبيلة المعتدى عليها فإن الحرب تكون هي الخطوة التالية.
2- حدد العرف القبلي أن على الجهة الراغبة في الحرب أن تقوم  بإرسال رسالة شفهية أو كتابية مع " ألدوشان"  تبلغ القبيلة الأخرى بأنها قد أعلنت الحرب عليها. وإذا تعذر ذلك؛ فإن إعلان الحرب يتم بشكل علني من قبل الدوشان في مكان عام كالأسواق مثلا. وفي هذه الحالة يقوم دوشان القبيلة المعلنة للحرب بالإعلان عن الحرب في يوم السوق الأسبوعي التي تتسوق فيه القبيلة المعلن عليها الحرب. وهذا الإعلان له  إجراءات محددة يجب أن تتبع، فتوقيت الإعلان يجب أن  يتم  في الساعة التي يكون السوق فيها في أوج نشاطه وفي الغالب ساعة الضحى. ويتم الإعلان بأن يعتلي ألدوشان، منطقة بارزة، تسمى في بعض المناطق حجر المصح، وهي ليست بالضرورة حجر فعلية، يتم منها مناداة المتسوقين لسماع الخبر الذي سيعلنه الدوشان، وبعد أن يتجمع المتسوقين يقوم الدوشان بإعلامهم بأن قبيلته الذي يقوم بتحديدها بالاسم وبذكر بعض من صفاتها بأنها تعلن "رد البراء"[17] أو "الزكن"[18] وهي التسمية المتعارف عليها لإعلان الحرب، معدداً الأسباب التي من أجلها تم هذا الإعلان. ويختتم الدوشان إعلان الحرب بعبارة "الحاضر يعلم الغائب". وبعد أن ينهي ألدوشان كلامه يؤتى بدوشان القبيلة المعلن عليها الحرب ليتعرف على دوشان القبيلة المعلنة، وبعد أن يؤكد ذلك؛ يعد هذا الإعلان صحيحا.
3- وبعد إعلان الحرب بالطريقة التي ذكرنا لا يعتبر اندلاع الحرب حتميا؛ فهناك عدة وسائل لتفادي اندلاعها منها: قيام القبيلة المعلن عليها الحرب، أو قبيلة ثالثة أو عدة قبائل بإرسال بنادق للطرف المعلن للحرب، تسمى بنادق المرزى[19]، وتعمل هذه البنادق في حال قبولها من القبيلة المعلنة للحرب؛ على تعليق إعلان الحرب لبعض الوقت حتى يتسنى للوسطاء، أو القبيلة المعلنة الحرب عليها، التوصل إلى صلح أو هدنة أو حل نهائي يمنع اندلاع الحرب. فإذا كانت البنادق قد أرسلت من قبل الطرف المعلن عليه الحرب، فأن هذا العمل يعد رغبة منه في تفادي الحرب والقبول بالتفاوض، وإن كان المرسل لها طرف ثالث، فعلى القبيلة المعلنة للحرب أن تعطيه وقتا كافيا لإنجاح جهوده في الوساطة.
غير أن هذه العملية تشترط لكي تثمر؛ أن تتم قبل غروب شمس يوم إعلان رد البراء في السوق، وهو الموعد المحدد لبدء الأعمال الحربية، هذا في حال أعلنت الحرب في السوق الذي تتسوق فيه القبيلة المعلن الحرب عليها، وإذا أن كانت هذه القبيلة غير متواجدة في هذا السوق فأن المهلة تمتد لثمانية أيام عند بعض القبائل، كما هو معمول به عند القبائل البدوية.
وتعد الإجراءات التي ذكرنا ضرورية في حال إعلان الحرب كي يتفادى الطرف المعلن اللوم والعقوبات إذا ما قام بالحرب بدون إشعار مسبق بالطريقة التي ذكرناها.
 ولكن هناك حالات تندلع فيها الحرب دون تلك الإجراءات كالحالات التي يتم فيها اشتباكات بين أفراد من قبائل متجاورة ينتج عنها قتلى، وفي هذه الحالة قد تشتبك القبيلتان مباشرة في حال نجدة كل قبيلة لأفرادها، وهو الأمر الذي يعني اندلاع الحرب بعد ذلك مباشرة وبشكل تلقائي.
كما أن حالات الاعتداء على النساء تؤدي في الغالب إلى ردود أفعال غاضبة وسريعة من قبل الطرف الذي اعتدي على نسائه مما قد يسفر رد الفعل هذا عن نشوب حرب، وفي هذه الحالات يتم التغاضي عن إجراءات بدء الحرب لضخامة الفعل وبشاعته.
وفي الإجمال يعتمد تقدير ما إذا كان هذا الطرف أو ذاك قد التزم بقواعد و إجراءات بدء الحرب على الوقائع المصاحبة والأسباب الباعثة للحرب، فهناك من الأمور ما سيتم تقديرها بأنها كانت مشروعة لبدء الحرب دون إعلان مسبق، أو لعدم مشروعيتها ويتم هذا التقييم في اثنا إجراءات الصلح التي تأتي بعد ذلك، والذي يترك تقديره للمحكمين.



مسرح العمليات

ما أن تبدأ الحرب حتى يكون مسرح العمليات كل أراضي القبيلتين، ويتحدد مكان القتال تبعاً لطبيعة وأسباب الحرب؛ فإن كان سبب الحرب خلافا على قطعة أرض فإن مسرح العمليات يتحدد في المنطقة المتنازع عليها. وفي هذه الحالة تتجنب أطراف الحرب أن توقع بخصمها خسائر بشرية، إذا لم تكن قد حدثت إصابات سابقة. فالطرفان يدركان أن الخسائر البشرية تعقد الصراع وتحوله من صراع على أرض يمكن حله عن طريق المفاوضات إلى صراع على دم يدخل في باب "السلف والقضاء"، والذي لا يحل إلا بالدم.
وفي حالة الحرب التي يكون سببها خلاف مادي؛ تكون الحرب عبارة عن عملية استعراض للقوة، فالطرفان المتصارعان يقومان بالتخندق على مقربة من هذه الأرض، ومن ثم القيام بإطلاق النار بكثافة في الهواء أو الأماكن الخالية. وقد تستخدم في هذه الحالات الأسلحة الثقيلة مثل مدافع الميدان والصواريخ المضادة للدروع والرشاشات الثقيلة، و هي  أسلحة متوفرة لدى معظم القبائل في الوقت الحالي. ويكون الهدف من استخدام هذه الأسلحة؛ استعراض القوة وليس إيقاع خسائر بشرية أو مادية للخصم.
وتتصف الحروب القبلية التي تكون أسبابها خلافات على الأراضي بأنها كثيرة الضجيج قليلة الخسائر. فقد يحدث أن تستمر حرب بين قبيلتين لمدة أيام أو حتى أسابيع دون أن تحدث أية خسائر بشرية، أو مادية، رغم استخدام الأسلحة الثقيلة. وهو الأمر الذي يثير استغراب الكثيرين ممن لا يعرفون طبيعة الحروب القبلية، والذين يتساءلون عن جدوى مثل هكذا حرب.
غير أن الحرب قد تكون أكثر ضراوة في الحالات التي يكون باعثها انتهاك ما تعتبره القبيلة شرفها وكرامتها، خاصة ما يتعلق بموضوع الاعتداء على النساء أو عمليات القتل غيلة وبدون أسباب وجيهة. فهذه الأسباب قد تؤدي إلى قيام الطرفين بعمليات مداهمة لسكن الطرف الأخر قد توقع  خسائر بشرية كبيرة، خاصة إذا قام الطرف المهاجم  بعملية انتقام لخسائر بشرية وقعت فيه من الخصم. فالمهاجم يسعى في هجومه للأخذ بثأره عن طريق قتل عدد مساوٍ للعدد الذي فقده.
وهناك قاعدة في المناطق البدوية تعطي للقبيلة المهاجمة الحق في الأخذ بثأرها في - ثلاث صبحات - ثلاثة أيام، حيث لا يؤاخذ الطرف "المنقوص" خلال هذه الفترة إذا ما أخل ببعض القواعد العرفية، كمهاجمة الزرع أو المنشآت المادية، حيث لا يلزمه التعويض أن تم ذلك خلال هذه المدة، خاصة إذا عُـد فعل الخصم معيباً وفقا للعرف القبلي.
ويمكن اعتبار هذا الترخيص خلال هذه الفترة بمثابة تنفيس للطرف المنقوص يعبر من خلاله عن غضبه، كما أنها من ناحية أخرى تعد عقاباً لأي طرف يقوم بانتهاك صارخ للعرف القبلي، وبالذات تلك المتعلقة بالجرائم الجسيمة التي تسمى عند القبائل بالعيوب السوداء، والمتعلقة بجرائم الشرف أو الإخلال بالعهود والاتفاقات.
 وفي كل الأحوال يتحدد مسرح العمليات بظروف خاصة بكل معركة، إلا أنه لا يخرج عن نطاق أراضي الأطراف المتصارعة. فلا يجوز أن تمتد الأعمال الحربية إلى مناطق القبائل الأخرى. فأي أعمال حربية تتم داخل أرضي قبيلة ليست طرفا في الحرب يعد اعتداء على هذه القبيلة يلزمه التعويض والاعتذار لهذه القبيلة وإلا عُـد إعلان حرب من الطرف المستخدم لهذه الأراضي.
وفي حالة عدم وجود حدود للأطراف المتحاربة وتطلب التحرك والمرور بأراضي قبيلة أو قبائل أخرى يجب أن تعطى الإذن بالمرور من القبائل التي ستمر من أراضيهم. ويلزم العرف الطرف الراغب بالمرور أن يعلمها قبل ذلك، مبيناً أسباب المرور والطرف الذي سيهاجمه. وللقبيلة صاحبة الأرض تقدير ما إذا كان التحرك لقضية عادلة أم لا. وفي هذه الحالة قد تتدخل القبيلة صاحبة الأرض من تسليم القبيلة المهاجمة بنادق لتوقفها عن الحركة ريثما تتحرك لدى القبيلة الأخرى كوسيط؛ فأن لم تفلح ورأت أن أسباب الحرب مشروعة للطرف المهاجم تتركه يمر، أو أنها تمنعه وفي هذه الحالة إما أن يبحث الطرف المهاجم عن طريق أخرى أو يدخل في مواجهة مسلحة مع القبيلة التي تقع  بينه وبين القبيلة المراد مهاجمتها.
وتوضح هذه القواعد حرمة أراضي القبائل والتي تعتبر بمثابة مناطق سيادية بالمعني الذي هو علية في القانون الدولي.
ويبقى أن نشير هنا إلى أن هناك مناطق لا تخضع فعليا لأي سلطة قبلية كما هو الحال في المناطق الصحراوية. ففي هذه المناطق لو حدث أن مورست أعمال حربية فيها فأنها تعتبر من المناطق التي يسمح بالقتال فيها لكونها أرض مشاع.

المناطق المهجرة " الآمنة

يستخدم لفظ "هجرة" في مواقف كثيرة في العرف القبلي، كما يشتق منها معاني كثيرة. ولا يعرف بالضبط مصدر هذا المصطلح، فكلمة هجر، وهو جذر الكلمة معناه اللغوي ترك أو رحل ويقال مهاجر لمن ترك موطنه.
 غير أن لفظ هجرة في العرف القبلي في اليمن تعني شيئا أخر، مرتبط بشكل مباشر  بالمسائل الحربية، ومعناها في الغالب الأمان فيقال، فلان مهجر بمعنى تحريم الاعتداء عليه، ويقال عن الأسواق أنها مهجرة، كما يطلق نفس اللفظ على بعض المناطق والمدن كما سيأتي ذكره لاحقا. وفي سياق أخر؛ يذكر لفظ تهجير، أو هجر ليشير إلى تلك العملية التي يتم بها ذبح الحيوانات كترضية  لشخص أو جماعة وقع عليهم خطأ ما.
والمناطق المهجرة في العرف الحربي القبلي هي بشكل أساسي المناطق التي يحظر فيها القتال كالأسواق وبعض المدن والقرى وبعض الأراضي الذي تُـهجر بدون أن يكون هناك سبب واضح لتهجيرها. وسنبدأ بذكر أهم المناطق المهجرة وهي الأسواق.

 الأسواق:

تنتشر في المناطق القبلية الأسواق الأسبوعية حيث تتوزع أيام الأسبوع على مناطق متعددة، ويتم في هذه الأسواق تبادل السلع والخدمات بين المناطق القبلية. وبعض هذه الأسواق لا تفتح إلا في يوم السوق وتغلق في بقية الأسبوع. ولكل قبيلة أو عدة قبائل سوق يوجد في أراضيها، ويتم تحديد حدوده بشكل واضح من جميع الاتجاهات الأربع.
وتخضع الأسواق لنظام خاص؛ فالقبيلة أو القبائل أصحاب السوق يبرمون مراقيم (اتفاقيات) في فترة تأسيس السوق وتتم مراجعتها بشكل دائم لتواكب مستجدات قد تطرأ. وفي هذه المراقيم يتم ذكر قواعد التسوق التي تشمل المسموح والممنوع داخل حرم السوق، وكذلك ذكر للعقوبات التي تفرض لكل المخالفات ونوعيتها. وأهم ما تشتمل علية المراقيم؛ قواعد تحريم الأعمال العدائية داخل السوق. ويندرج تحت مسمى أعمال عدائية عمليات الشتم والاعتداء والتهديد وحتى مجرد النظرات العدائية، ولمس راس الجنبية. فكل هذه الأعمال تحدد العقوبات لمن ينتهكها. وتعتبر هذه الانتهاكات بمثابة عيوب يلزم مرتكبها التعويض والعقاب والذي يدفع للأطراف صاحبة السوق بالدرجة الأولى وليس للطرف الذي وقع علية الاعتداء.
 فعلى الرغم من أن عملية التسوق تسمح بأن يدخل الجميع للسوق بسلاحهم، إلا أن استخدام السلاح أو التهديد به، يعد من أكثر الجرائم خطورة. ففي الأسواق يلتقي الخصوم ممن بينهم ثارات غير أنهم لا يستطيعون أن يصفوا خلافاتهم داخل السوق.
 وفي بعض المناطق القبلية تعطى الأسواق والطرق المودية لها نفس الحصانة ولمدة ثلاثة أيام: يوم قبل يوم التسوق، ويوم التسوق، ويوم بعد التسوق. وقد حددت هذه المدة لأنها كانت ضرورية في الماضي للتنقل بواسطة وسائل النقل التقليدية.
وللقبيلة صاحبة السوق أن تحدد العقوبات التي تراها مناسبة. فقد يتم وضع عقوبة لفعل ما بالمربوع[20]، وفي سوق أخر تكون عقوبة نفس الفعل أقل من ذلك أو أكثر. وعلى المتسوقين متى أصبحوا داخل السوق أن يلتزموا بحكم أصحاب السوق، بغض النظر عن موقفهم منها. وهناك عبارة تردد في المناطق القبلية تقول "حكم القبيلة الفلانية في سوقها"، وهذا المثل كناية على أن لكل قبيلة الحرية الكاملة في توصيف العقوبة وحجم التعويض عنها بالطريقة التي تراها، وعلى المتسوقين قبولها دون نقاش، أو الامتناع عن التسوق، وفي كل الأحوال؛ فإن هناك قواعد عامة لتوصيف المخالفات وحجم العقوبات في الأسواق، تشترك فيها معظم الأسواق القبلية، وهناك بعض الاستثناءات في بعض الأسواق، والتي لا تخرج كثيرا عنها.
والأسواق لما لها من ضرورة وأهميه في استمرار عملية تبادل السلع تعد من أكثر المناطق أماناً في أثناء النزاعات. وتحرص كل قبيلة؛ لأسباب اقتصادية، ومن أجل مكانتها بين القبائل أن تجعل من سوقها منطقة أمنه. فأي أعمال عدائية داخل أي سوق قبلي يلحق أضرار اقتصادية للقبيلة مالكة السوق، ويعرضها للوم والمهانة، كونها لم تقدر على ضبط سوقها.
وفي العادة تتطلب عقوبة من يرتكب أي فعل عدائي داخل السوق الترضية لأصحاب السوق وللشخص أو الأشخاص المعتدى عليهم، فإن قام شخص من قبيلة متسوقة بالاعتداء على شخص من قبيلة أخرى، من غير مالكي السوق؛ يلزمه أن يدفع الغرامات لأصحاب السوق، والتي تكون في العادة ذبح بقر داخل السوق تسمى هجر للساحة (السوق) وكذلك تعويض آخر أو عقوبة أخرى للمعتدى عليه من القبيلة الأخرى.
وفي أثناء الحروب يمتنع كل طرف من التسوق في سوق الطرف الأخر. غير أنهما يتسوقان في أسواق أطراف قبائل غير مشتركة في النزاع. وحتى لو تم لقاء بينهم فأنهم لا يستطيعون أن يتعاركوا داخل هذه الأسواق كما بينا، وهو الأمر الذي يسمح باستمرار عملية التبادل الاقتصادي أثناء الحروب.

 القرى والمدن المهجرة:

توجد في المناطق القبلية قرى ومدن تكون مهجرة، بمعنى أن القبائل قد اتفقت على أن تجعل هذه المناطق آمنه، فلا يسمح بالقيام بأعمال عدائية داخل هذه المناطق التي تُـعين حدودها بدقة. وفي العادة تكون المناطق المهجرة مناطق تسكنها فئات لا تنتمي لفئة القبائل كفئة السادة[21]، وتسمى هذه المناطق في بعض المناطق باسم هجرة علم، لما عُرف عن هذه الفئة من امتهانها للعلوم الدينية، وإجادتهم للقراءة والكتابة. كما أنه قد توجد إلى جانب هذه الفئة فئة بني الخمس[22]، وهم أيضاً من الفئات المهجرة، كما سيتم ذكره لاحقاً.
والى جانب هذه المناطق تُـعد المدن الرئيسية والتي تسكنها فئات متنوعة، كمدينة صنعاء منطقة مهجرة، وكذلك مدن اليهود والتي كانت تقام بجوار المدن الخاصة بالمسلمين، فهذه المدن أو القرى تعتبر أيضا مهجرة.
وتحدد القبائل حجم العقوبات التي تعد من العيوب على أي أعمال عدائية داخل هذه المناطق، ولا توجد قاعدة واحدة لكل هذه المناطق.



الفئات المحمية " المهجرة

تعطى صفة التهجير للفئات التي يمنع التعرض لها اثنا المعارك. وهذه الفئات باختصار هم غير المحاربين من غير رجال القبائل. ويشمل هؤلاء: الأطفال والنساء، وفئات بني الخمس والسادة والقضاة واليهود والضيوف والمسافرين والوسطاء ورجال الدين - الفقهاء - وكل من ليس طرفا في النزاع وصادف وجوده في مناطق النزاع. وتتمتع هذه الفئات بالحماية في أوقات الحرب وأوقات السلم، حيث تظل في منأى عن عمليات الثار وأي أعمال حربية  أخرى.
 و تختلف درجة الحماية وحجم العقوبة في حالة الانتهاك من فئة لأخرى حسب ما سنفصله على النحو التالي:

النساء:

 كما ذكرنا سابقاً تمثل النساء في المجتمع القبلي شرف وكرامة رجال القبيلة. فالاعتداء عليهن يعد من الأمور الجسيمة التي تستفز المشاعر بقوة من قبل القبيلة التي ينتمين لها النساء. كما أن فعل الاعتداء على النساء يثير الاستهجان والرفض من جميع القبائل بما فيها القبائل التي تنتمي لها القبيلة المعتدية أو في تحالف معها. فالثقافة القبلية تعد الاعتداء على النساء عملا شائنا ويوصف من يقوم به بالجبن والخسة والضعف، فالقبيلي يفتخر بأنة لا يقاتل إلا من هو في مستواه من حيث القوة والندية. فقتاله يجب أن يتصف بالنبل والترفع والندية.
وتسمى المرأة عند القبائل البدوية بالمعورة، فأي فعل يمسها يعد من الأعمال الجالبة للخزي والعار؛ على من قام به، وكذلك على القبيلة التي لا تنتقم لهذا الفعل الشائن ولا تدينه. ومن أكثر الحروب عنفاً وضراوة تلك التي يكون سبب اندلاعها اعتداء على النساء.
فالقبيلة التي يبدر من أفرادها اعتداء على نساء، تعمل كل ما بوسعها لتتنصل من فعله، وخاصة إذا كان هذا الفعل يتعلق باعتداء جنسي أو عملية خطف.
فالثقافة القبلية توجب على القبيلة التي ينتمي لها الفاعل أن تقوم هي بتأديبه وتبادر بتسليم بنادق تحكيم لقبيلة المرأة المعتدى عليها، تعبيرا عن رفضها لذلك العمل، ولتثبت للقبيلة الأخرى  رغبتها في التعويض والاعتذار، ويتم هذا الفعل حتى لو كانت القبيلتان في حالة حرب قائمة.
ومن النادر أن تتضامن قبيلة مع أحد أفرادها الذي قام بالاعتداء على امرأة إلا إذا تم الاعتداء عن طريق الخطاء.
ومن الأمور التي يجب ذكرها هنا أن مرافقة امرأة لرجل تمنع عنه أي أعمال عدائية. فلو كان هناك شخص وعلية ثار لقبيلة أخرى وكان هذا الشخص برفقة نساء فأن خصومة يمتنعون عن هذا الفعل أمام النساء، وفي حال قيامهم بالاعتداء في حضور النساء يستهجن  هذا الفعل ويترتب علية عقوبات محددة. غير أن العقوبة المعنوية تعد الأكثر تأثيرا.
وأما في حالة الحروب فتعد إصابة امرأة اثنا الحرب من العيوب التي يعاقب عليها ب " المربوع " فيتم احتساب ثمن التعويض بأربع ديات نساء[23]. هذا في حال ما كان الاعتداء عرضي وغير متعمد. أما إذا ثبت أن الاعتداء كان متعمدا فأن هناك عقوبات معنوية تطال الجهة الفاعلة، منها التشهير الذي تتعرض له بين القبائل كونها قامت بالاعتداء على النساء بشكل متعمدا. وهناك طريقة للتشهير بالجهة التي قامت بهذا الفعل عن طريق ما يسمى  "حُكم الهشل " والهشل هو سروال المرأة، فعندما تقدم قبيلة على الاعتداء على نساء قبيلة أخرى بشكل متعمد وغير مبرر تقوم القبيلة التي تنتمي لها النساء بتعليق سروال نسائي على عصا ووضعه في الأسواق وأماكن التجمعات القبلية وعلى السيارات كي تشهر بالقبيلة التي قامت بهذا الفعل.
أن هذه الضمانات التي تعطي للنساء أثناء المنازعات الحربية قد سمحت لهن بحرية الحركة في مناطق النزاعات، فالنساء يستطعن التحرك بين القبائل المتحاربة، وحتى الدخول إلى جبهات القتال لإسعاف جريح أو إيصال طعام أو دواء. كما أنهن يستطعن القيام بالرعي في مناطق القبيلة الأخرى, ويذهبن للتسوق أو ممارسة أي نشاط اقتصادي أو اجتماعي. وفي بعض القبائل البدوية في منطقة مأرب تقود النساء السيارات ويتحركن بحرية داخل مناطق الخصوم دون أن يُـخشى عليهن من الاعتداء.
وفي الغالب فأن ظهور النساء في المعارك يوقف الحرب بشكل آلي وحتى مغادرتهن ساحة المعارك، وحتى في حالة الحصار فأن النساء يستطعن الدخول بالمؤن لأقاربهن، وأن كان في هذه الحالة من حق القبيلة المحاصرة أن تمنع دخول النساء لاعتبارات عسكرية إلا أن هذا الفعل يؤدي إلى عقوبة على الطرف الذي منع النساء من تزويد أقاربهن المحاصرين بالغذاء, غير أن هذا المنع يؤخذ في الاعتبار لأسباب عسكرية.
وفي بعض الحالات فأن النساء يستطعن إخراج أقاربهن الرجال من ارض المعركة وذلك بأن يرافق الرجال النساء، ويمروا بسلام من أمام الخصوم بشرط أن لا يبدر من الرجال أي أعمال عدائية. كما أن بإمكان النساء طلب هدنة لحرب قائمة وتسمى هذه الهدنة (الدرك) والتي قد تصل مدتها إلى اسبوعين.
والجدير بالملاحظة هنا أن قتل النساء لا يدخل في نطاق -السلف والقضاء - أي أنه يُـكتفي بالتعويض المادي فقط ولا يصبح عند القبيلة المعتدية دين دم كما هو الحال بالنسبة للذكور.
وهكذا نلاحظ أن العرف الحربي يمنح النساء نصيب كبير من الحماية أثناء الحروب أكثر من أي فئة أخرى.

الأطفال:

يحمي العرف القبلي الأطفال من الاعتداءات أثناء الحروب. فالأطفال بإمكانهم التحرك بين الأطراف المتقاتلة بحرية. وليس هناك سن محددة يصنف بها الطفل. غير أن سن البلوغ هو المقياس لانتهاء سن الطفولة. غير أن حمل الطفل للسلاح يفقده الحصانة التي تعطى لمن هم في سنه فأن حمل طفل السلاح وهو في الحادية عشر مثلاً فأنه يعد رجلا ولا يوجب الاعتداء علية أي تعويض خاص بالأطفال.
وهناك طريقة لتمييز الطفل عن الرجل تُـتبع في بعض القبائل البدوية، مثل مناطق الجوف, وتتلخص في تأخير سن (الختان) للفتيان لتجنيبهم الأعمال العدائية, ووفقا لذلك يعد طفلاً كل من ليس بمختون، ولكن بشرط أن لا يحمل السلاح, فأن حمل السلاح عومل كرجل بغض النظر عن سنه أو ما إذا كان مختونا أم لا.
وفي كل الأحوال يُـعاقب من قتل طفلا أثناء المعارك بدفع " المربوع " من الديات، دية الأنثى بديات النساء ودية الفتيان بنفس دية الرجال, والفارق هنا أن الطفل الذكر لا يسقط دمه بعد دفع الديات ويصبح محسوبا على القبيلة الجانية بدم رجل، حتى لو دفعت الديات. فالديات هنا عبارة عن غرامة مقابل خرق القاعدة العرفية التي تمنع الاعتداء على الأطفال وليست في مقابل الدم الذي لا يسقط إلا بالانتقام بقتل رجل أخر.

كبار السن: 

ليس هناك تعريف واضح لمعنى كبار السن، فكبار السن من الذكور في المجتمع القبلي، عادة ما يرفضوا التوقف عن حمل السلاح؛ حتى وأن أصبحوا غير قادرين عملياً على القتال. فهؤلاء يرون في ترك السلاح نوعا من المهانة والانتقاص، وتخليا عن صفات الرجولة. ووفقا لذلك؛ نجد أشخاصا تجاوزوا سن الـ 70 عاماً ولا زالوا يحملون السلاح، وهو ما يعني عمليا أنهم لا زالوا ضمن المحاربين، الأمر الذي لا يمنحهم أي حصانة من الأعمال الحربية. ولهذا فلا توجد قاعدة محددة توضح عقوبة الاعتداء على كبار السن. غير أن كبير السن العاجز وغير القادر على القتال وغير المشارك في الحرب يعتبر الاعتداء عليه عملا غير لائق في العرف القبلي.

المشايخ:

بحكم الدور الكبير الذي يلعبه المشايخ كوسطاء ومحكمين في حل المنازعات القبلية يعتبر الشيخ داخل قبيلته مهجر، وهو ما يجعله محصن من الثارات داخل القبيلة. وما ينطبق على الشيخ داخل القبيلة، ينطبق على شيخ مشايخ التجمع أو الاتحاد القبلي الذي يتزعمه، والذي هو الآخر مهجر ضمن قبائل التجمع أو الاتحاد. ومنح الشيخ الحماية، يمكنه من القيام بمهامه في إدارة شئون القبيلة، وبالتحديد دوره في حل الخلافات، والذي يتطلب الحركة بحرية وآمان في مناطق الحروب والنزاعات.
وفي حالات الحروب بين قبيلة وأخرى يختلف حكم الشيخ عن ذلك؛ فالشيوخ عمليا هم قادة القبيلة أثناء الحرب وبالتالي إن أصيبوا أثناء المعارك فحكمهم هو في حكم الآخرين. غير أن القبائل المتنازعة تتفادى قتل شيوخ الطرف الأخر, لأن قتل الشيخ معناه أن القبيلة التي فقدت شيخها ستسعى للانتقام من شيخ القبيلة الخصم فهي قد لا ترضى بتسوية دينها مع الخصوم إلا بمقتل الشيخ الخصم. ولهذا كله فأن القبائل تحرص على أن تُـبعد المشايخ عن حسابات "السلف والقضاء" المعمول بها في العرف القبلي.
وبشكل عام؛ فإن للشيوخ مكانة واحترام في النظام القبلي، فالخطاء على الشيخ يعاقب بـ "المربوع"، والخطاء منه يحاسب بـ "المربوع" أيضا وهو ما يعني احترام الآخرين للشيخ، واحترام الشيخ لهم وامتناعه عن ارتكاب الخطاء.  

  الفئات غير القبلية:

تتكون القبيلة في الأصل من أفراد يرتبطون بعلاقة نسب أبوية، أو هكذا يعتقدون، والذين يسمون القبائل, وهم بذلك يعتبرون المالكين الفعليين للأرض التي يعيشون عليها, وتحمل القبيلة أسمهم, ولهم الزعامة على من يسكن معهم.
والى جانب القبائل؛ هناك فئات أخرى تعيش في كنف القبيلة، لديهم أدوار اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة عن القبائل. وهو ما يمنحهم حقوق وواجبات مختلفة داخل القبيلة أو تجاه الغير.
والدور الرئيسي المغاير للفئات غير القبلية عن القبائل يتعلق بالحرب، حيث أن هؤلاء معفيين من المشاركة في الحروب القبلية، ولا يتحملون وزرها المباشر، فلا يدخلون ضمن ما يسمى "السلف والقضاء"، الأمر الذي يجعلهم في خانة الفئات المحمية (المهجرين). 
وفي هذا السياق يكون "القبيلي" وفق الوضع القبلي النموذجي هو الوحيد الذي يحمل السلاح، فيما الفئات الأخرى لا تحمل السلاح. وأهم سلاح يميز القبيلي عن غير القبيلي هو الخنجر، فالخنجر ذو الشكل العمودي والذي يسمى الجنبية لم يكن يتمنطق به قبل ثورة سبتمبر 1962 سوى القبائل، فيما الفئات غير القبلية أما أنها لم تكن تتمنطق بخنجر، كما هو حال اليهود وبعض "بني الخمس"[24] أو أن لها خنجر أخر يسمى التوسة أو الثومة[25]، والذي تتمنطقه فئات "السادة" والقضاة والفقهاء، والذي له شكل مختلف عن الجنبية العمودية.
ومنذ ما بعد ثورة سبتمبر 1962 لم يعد هذا التمايز واضحا، فالجنبية العمودية أصبحت هي الخنجر الذي تتمنطق به كل الفئات القبلية وغير القبلية في مناطق القبائل أو المدن. كما أن الأسلحة النارية أصبحت هي الأخرى منتشرة بين جميع الفئات القبلية وغير القبلية، ومن ثم فقد الخنجر والسلاح عموما الكثير من رمزيته ودلالاته الأصلية. ومع ذلك؛ فإن مقتضيات الدراسة تتطلب الإشارة إلى هذا الأمر، لما كان له من أهمية في تمييز المحارب عن غير المحارب (القبائل ، غير القبائل).
وبشكل عام فإن جميع الفئات غير القبلية لا زالت تتمتع بالحماية في الحروب القبلية حتى الوقت الحالي، مع بعض الاستثناءات. وفيما يلي ذكر لهذه الفئات وكيفية تعامل العرف الحربي معها:

السادة " الهاشميون"

يسمى سادة في اليمن عموما، ومن ضمنها المناطق القبلية، الأسر التي تعود بنسبها إلى النبي محمد. وترجع البداية الرسمية لهذه الفئة في المناطق القبلية إلى القرن التاسع الميلادي عندما تأسست أول دولة زيديه في اليمن عام 284 هجرية – 897 ميلادية. ومن هذه الفئة كان يخرج الأئمة الزيديون الذين حكموا المناطق الزيدية، بشكل أو آخر، لمدة تزيد عن ألف عام.
وهم لهذه الصفة يتمتعون بنفوذ روحي كبير في كل المناطق اليمنية, خاصة وأن المهن التي يمتهنوها ترتبط بالعلم الشرعي كالقضاء والتعليم وكتابة وتحرير العقود.
ويعد السادة بشكل عام فئة مهجرة بين القبائل, أي أنها لا تشترك في الحروب القبلية. فالسيد الساكن في قبيلة ما؛ لا يشترك مع بقية أفراد القبيلة في الحروب التي تنشب بينها وبين القبائل الأخرى، كما أنه غير ملزم في المشاركة بالغرامات المادية التي تتحملها القبيلة.
وهم بهذه الصفة يتمتعون بحماية القبيلة التي يعيشون فيها. وفي بعض المناطق هناك قرى خاصة بهم تسمى "هجرة علم", وتكون هذه الأماكن مهجرة بين القبائل, أي أنها تعتبر منطقة يحظر فيها القتال، أو أي نشاط عدائي.
وفي حالة الاعتداء على السادة "المهجرين" يعتبر ذلك من العيوب التي تغلظ فيها العقوبة، غير أن حجم العقوبة يختلف من منطقة قبلية إلى أخرى، ففي بعض المناطق تعتبر عقوبة الاعتداء على السيد ب "المهدعش" كما هو الحال في مناطق برط, بينما عقوبة الاعتداء على السيد بالمربوع في مناطق حاشد.
ويتميز السادة عن غيرهم من الفئات الأخرى من خلال الملابس التي يرتدونها، فالسيد يرتدي غطاء رأس مميز يسمى (القاوق) وهو ما يميزه عن غيره من الفئات وتحديدا القضاة والذين يعتمون بغطاء رأس شبيه بالقاوق. إلى ذلك يتميز السيد عن القبائل بنوع الخنجر الذي يتمنطقه. فكما سبق وذكرنا فإن السيد تقليديا، لا يتمنطق الجنبية العمودية، بل له خنجر خاص يسمى التوزه، أو الثومة.
غير أن صفة التهجير تسقط عن السيد في حال حمله السلاح ومشاركته في الحرب إلى جانب القبيلة التي يعيش فيها, كما يحدث في بعض المناطق التي يشارك فيها السيد في الحرب مثله مثل أفراد القبائل الآخرين, ويصبح حكمه في هذه الحالة مساويا لحكم القبائل.

رجال الدين " الفقهاء والقضاة:

 يسمى رجل الدين في اليمن بفقيه. وقد يكون هذا الفقيه قاضيا أيضا. فالقضاء في اليمن  قضا شرعي. ويأتي القضاة والفقهاء من جميع فئات المجتمع القبلي. غير أن هناك بعض الأسر تتوارث هذه المهنة فيما بينها. ومعظم القبائل تهجر القضاة والفقهاء والذين يرتدون ملابس خاصة تميزهم عن ملابس القبائل والفئات الأخرى, والخنجر الذي يتمنطقونه هو التوسه. وبحكم تهجيرهم يصبح الاعتداء عليهم من العيوب والتي يختلف حجم عقوبتها من منطقة قبلية إلى أخرى.

بني الخمس:

توجد في مناطق القبائل، وتحديدا الكبيرة منها، فئة اجتماعية لا ترتبط مع القبائل برباط دم، أو علاقة مصاهرة، حيث أن القبائل وبقية الفئات الأخرى لا تزوج بناتها لأبناء هذه الفئة أو تتزوج من بنات هذه الفئة. وتمتهن هذه الفئة المهن التي يرفض القبيلي ممارستها. و تشتمل كل الأعمال اليدوية تقريبا، كما هو الحال في مناطق القبائل البدوية، وعدد من المهن التي لا يمارسها القبيلي في مناطق القبائل الزراعية.
ومن هذه المهن: الحلاقة، والجزارة، وزراعة وبيع الخضار، والغناء، وتملك المطاعم والمقاهي، وغيرها من المهن التي تتسع أو تضييق تبعا لشدة النظام القبلي.   
وتسمى هذه الفئة في معظم مناطق قبائل حاشد وبكيل بني الخمس، وترجع أصول هذه الفئة إلى مهاجرين، وفدوا إلى القبيلة من مناطق حضرية أو قبلية أخرى، وفي العادة لا تعرف أصولهم الاجتماعية، وأنسابهم، على خلاف فئة القبائل التي تفاخر بأصولها وأنسابها الحقيقية أو الأسطورية.
وتعيش أغلبية هذه الفئة في المناطق القبلية الكبيرة، كما سبقت الإشارة، والمدن التي تجاورها، مثل مدينة صنعاء وعمران وصعدة، وريدة.
وتعتبر هذه الفئة ضمن الفئات المحمية في العرف الحربي القبلي، كونهم غير محاربين. وتتولى القبيلة التي يعيشون في كنفها مسئولية الدفاع عنهم في حال تعرضوا لأي اعتداء من داخل القبيلة أو من خارجها. ويعد الاعتداء على هذه الفئة من العيوب التي يلزم معاقبة الجاني فيها بمضاعفة الغرامة إلى عدة أضعاف. ففي قبيلة حاشد تكون العقوبة ب "المربوع" فيما قد  تصل العقوبة في بعض القبائل البدوية إلى "المهدعش".
وفي فترة ما قبل ثورة سبتمبر لم يكن ذكور هذه الفئة يتمنطقون الجنبية، وكان الأغنياء منهم يتمنطق بالتوسه، التي تشبه تلك التي تتمنطق بها فئة السادة والقضاة، إلا أنها تختلف عنها في اتجاه نهاية الغمد، فتوسة السادة والقضاة تتجه ناحية اليمين، بينما توسة بني الخمس تتجه ناحية اليسار.
وإلى جانب ذلك؛ كان لأصحاب بعض المهن أزيا خاصة تميزهم عن القبائل، وأصحاب المهن الأخرى من نفس الفئة. وقد عمل هذا التميز في الهيئة على منع استهدافها أثناء الحرب أو عمليات الثار.
وفي حال قتل أحد من هذه الفئات أثناء المعارك، لا يحتسب قتله ضمن ما يسمى السلف والقضاء، ويتعامل مع واقعة القتل على أساس أنها من العيوب التي تستوجب مضاعفة الغرامة المالية (الدية) بالمربوع أو المهدعش أو أي قيمة يحددها الوسطاء والمحكمين. وهي الغرامة التي تستفيد منها القبيلة وليس أسرة المقتول، فالأسرة لا تحصل إلا على الدية الشرعية بينما القبيلة تستفيد من الغرامات الإضافية.
وفي الوقت الحاضر أصبح الكثير من القبائل تمتهن بعض المهن التي كانت مقتصرة على بني الخمس، باستثناء مهنة الجزارة والحلاقة، والدوشنة، والتي لا زالت من المهن الممنوعة على القبائل. ومن الناحية الأخرى لم تعد فئة بني الخمس تمتهن نفس المهن التي كانت تمتهنها سابقا كما صار أفرادها يحملون السلاح مثلما يحمله القبيلي ويلبسون نفس جنبية القبيلي.

اليهود:

كانت تعيش أعداد معتبرة من اليهود في اليمن، في الفترة التي سبقت هجرتهم إلى فلسطين وهي الهجرة التي ارتفعت وتيرتها بعد الحرب العالمية الثانية، وإعلان دولة إسرائيل. وكان هؤلاء يعيشون في مناطق خاصة بهم، خاصة في مناطق التجمعات السكانية الكبيرة كمدينة صنعاء وعمران وصعده. وفي الوقت الحالي أقتصر وجود اليهود على عدد محدود قد لا يزيد عن مائة شخص.
واليهود يتميزون عن المسلمين بهيئة خاصة بهم. فالذكور منهم يتميزون بالزنار -خصلة من الشعر تتدلى من جانبي الرأس-  و يلبسون كوفية -غطا رأس بألوان مميزة خاصة بهم، والأهم من كل هذا؛ أنهم لم يكونوا يحملون أي سلاح, بما فيها ذلك الخنجر.
وكانت نساء اليهود يتميزن بغطاء رأس (مقرمه) مختلفة عن تلك التي تضعها النساء المسلمات.
وكان اليهود يدفعون الجزية للحاكم أو من يمثله, وهي ضريبة رأس على كل فرد، وتدفع بشكل سنوي وفقا لنظام أهل الذمة الذي كان معمول به في المجتمعات الإسلامية والتي  يعتبرها الفقهاء المسلمون ضريبة حماية يدفعها غير المسلم لأنه لا يطلب من القتال في الحرب.
 وفي المناطق القبلية كان شيوخ القبائل يقومون بجمع الجزية نيابة عن السلطات الحاكمة مقابل مبالغ تقطع منها. وفي فترات ضعف أو غياب السلطة المركزية كأن الشيخ يستحوذ على معظمها.
ويتعامل العرف الحربي القبلي مع اليهود بصفتهم فئات محمية، لا يجوز قتالهم، وفي حال تم الاعتداء عليهم، يتم اعتبار ذلك ضمن العيوب. وتتولى القبيلة التي يعيشون في كنفها الدفاع عنهم والمطالبة بالتعويضات نيابة عنهم والتي قد تصل عقوبة الاعتداء عليهم في بعض المناطق إلى "المهدعش".

الدوشان:

يلعب الدوشان دوراً هاماً في حياة القبيلة في أثناء الحرب والسلم. فالدوشان هو المتحدث الرسمي باسم القبيلة. فهوا الذي يعلن الحرب في الأماكن العامة، كما ذكرنا سابقاً، و يتولى حمل الرسائل من القبيلة واليها خاصة في أوقات الحرب. كما أنه يتقدم الصفوف في القبيلة أثناء الاجتماعات القبلية, وفي المناسبات العامة والخاصة كالأعياد الدينية ومناسبات الزفاف والختان وغيرها، ممجدا للقبيلة وذاكراً محاسنها ومناقبها.
وفي العادة يبادر الدوشان عندما يقابل سادة القوم من المشايخ والأعيان بمدحهم بصوت عال يسمع عن بعد ويقابل ذلك بإعطائه مبلغا من المال من الشخص الممدوح. وينظم العرف القبلي بشكل دقيق وواضح نشاط الدوشان وما يخصص له من أجر.
وللدوشان ملابس خاصة وهيئة تميزه عن بقية الفئات. فقد كان في السابق يحمل رمحا خاصا به يسمى (الحطيبي) كما أنه يضع غطاء رأس لونه اسود يسمى القبع, ويرتدي يلق (صديرية) خاصة, ويحمل جنبية عمودية مثل الجنبيه التي يرتديها القبيلي، ولكنها تتميز عنها بإضافة غطا فضي في نهايتها السفلية. ويضع في حزام الجنبية خزنة للأوراق تسمى كتاب توضع بها الرسائل التي ينقلها.
وينتمي الدوشان إلى فئة بني الخمس. وفي العادة تختص بمهنة الدوشنة أسر معينة يتوارثها الأبناء عن الآباء. ومن الصفات التي يجب أن يتحلى بها ألدوشان: الصوت العالي الذي هو أساس عمله، والفصاحة، وسرعة البديهة، والإلمام بالقواعد العرفية.
ويعتبر الدوشان نفسه من أعلى فئة بني الخمس, لما يقوم به من أدوار مهمة في القبيلة. ففي فترة الحرب يتمكن الدوشان من الانتقال بحرية بين القبائل المتحاربة حاملاً الرسائل, وناقلاً للجرحى, وزائراً للأسرى. وهو ما يشبهه البعض بدور الصليب الأحمر.
ولأهمية دور ألدوشان في الحروب القبلية؛ وضع العرف القبلي ضمانات واسعة تسهل له القيام بعمله. فكل القبائل تعتبر الدواشين مهجرين، ويعتبر الاعتداء عليهم بمثابة عيوب سودا تصل حجم التعويض المادي  حال الاعتداء إلى المهدعش. وبعض القبائل تضاعف هذا المبلغ خاصة إذا استهدف ألد وشان أثناء الحرب.
ويميز الدوشان نفسه في أثناء الحرب من خلال وضع قماشا ابيضا على رمحه "الحطيبي" يستطيع من خلاله التحرك بحرية والدخول إلى داخل ساحة المعارك وهو واثق من أنه لن يكون مستهدفا.

  الضيوف

تمجد الثقافة القبلية احترام الضيف وإكرامه, فللضيف حرمة حتى لو كان عدوا. ففي العرف القبلي لو شرب ضيف فنجان قهوة عند مضيفه أصبح له الأمان لمدة يوم كامل في حال كان هذا الضيف من قبيلة بينها وبين المضيف ثار. وتزداد فترة الآمان في حال مشاركة الضيف الطعام مع مضيفيه. وتشير هذه القواعد لما للضيف من مكانة في الثقافة القبلية, خاصة في المناطق البدوية حيث تكون الحاجة ملحه في تلك البقاع للاستضافة، وفي أثناء الحروب يعتبر الضيوف خارج الأعمال العدائية ما لم يشاركوا في القتال, عندها يكون حكمهم في حكم مضيفيهم، ويعد الاعتداء على الضيف عن علم ودراية من العيوب السوداء التي تضاعف عقوبتها"للمهدعش". كما تتحمل القبيلة المعتدية دين دم لقبيلة الضيف ويلزمها سداده.

 المسافرون:

يعتبر حكم المسافر أشبه بحكم الضيف. فالمسافر عابر طريق بين القبائل المتحاربة. وحكمه في حالة أن أعتدي علية عن علم بأنه مسافر يلزم المعتدين أن يدفعوا التعويض وهو بالمهدعش, وتتحمل القبيلة المعتدية دين دم لقبيلته مثله مثل الضيف.

الرفيق:

يحدث أن يلتقي خصمان في سوق ما، وكما ذكرنا يعتبر السوق منطقة آمنه "مهجرة" لا يستطيع الخصوم  تصفية حساباتهم داخل السوق. وقد يشعر شخص أو جماعة عليها دين دم أن أصحاب الدم سيكمنون لهم خارج حدود السوق في طريق العودة إلى منطقتهم، وعندها يمكنهم الطلب من شخص من قبيلة محايدة أن يرافقهم في الطريق حتى يصبحوا في مأمن. وفي حال تم اعتداء على الخصم وهو في رفقة شخص من قبيلة أخرى تعتبر قبيلة المرافق هذا الاعتداء وقع عليها مما قد يؤدي إلى نزاع مسلح بين القبيلتين. ويعتبر هذا الفعل من العيوب السوداء التي تعاقب ب "المهدعش".
ويتم الاحتماء بالمرافقين خلال فترة الحروب، حيث يتم تمرير أبناء المناطق المتحاربة من المناطق الخطرة.



التعامل مع الأسرى

يعتز القبيلي بشجاعته بكونه لا يخاف الموت, وبالتالي فأنة يقاتل حتى النهاية ولا يستسلم للخصم. هذه الذهنية تجعل من عملية الأسر مسألة حساسة بالنسبة للأسير أو الأسر. وفي الغالب يتم تعامل الطرفين مع هذه المسألة بكثير من الكياسة. فالثقافة القبلية تستحث الأسر بأن يشيد بشجاعة المأسور، حتى وأن اختلق قصصا ترفع من قيمة الأسير من خلال تصوير عملية الأسر وكأنها  تمت بعد أن استبسل الأسير وقاتل حتى تم أسره.
غير أن التعامل مع الأسرى لا يكون بهذه النبالة دائما. ففي أثناء المعارك قد يبدر من محارب أن يريد الاستسلام, وفي هذه الحالة من الممكن أن يتم  قتل الأسير في لحظة طلبه الاستسلام إذا كأن الطرف الأسر منقوص أو أن الشخص الطالب للاستسلام مطلوب قتلة من الخصوم. وهنا قد يتم قتل طالب الاستسلام في لحظة محاولته الاستسلام. وعلى قبيلته بعد ذلك أن تثبت في أثناء دعواها أنه قد قتل وهو"مستعفي" (طالب الاستسلام) وتتم عندما يلوح الفرد براية بيضاء أو بأن يضع يديه وسلاحه على جنب بإشارة توحي بأنه لن يستخدم سلاحه، وفي حال ثبت ذلك يلزم الطرف الذي قتل "المستعفي" تحمل عيب الفعل.
وفي حالة الأسر فأن العرف يطالب الأسر أن يعامله باحترام وكأنه ضيف, فلا يجوز أهانته أو تعذيبه, وقد يُـسمح للأسير بحمل سلاحه وتحديدا الجنبية، وأحيانا السلاح الناري بعد نزع الذخيرة منه.
وبما أن بقاء الأسير والذي سيعامل معاملة الضيف مكلف للقبائل, فأن إطلاق سراحه ومبادلته بأسرى تتم بسرعة. وفي أثناء إطلاق سراح الأسير فأن الطقوس المصاحبة له تتم وفيها كثير من التقدير والاحترام. فعلى صوت الطبول يتم نقل الأسرى ويضع على عمائمهم  "المشاقر"  (زهرة الريحان) وفي بعض الأحيان إن كان الأسرى من الأعيان والمشايخ يتم وضع جزء من "ثربة" - شحمة ذيل - الخروف بجوار المشاقر تدليلا على أنه قد تم ذبح خرفان لهم أثناء فترة الأسر والذي تعني أنهم عوملوا كضيوف كما أنهم عندما يعادون  يكونون حاملين أسلحتهم معهم أو ترسل مع طرف أخر فمن العيب أن تحتفظ قبيلة بأسلحة أسراها.
وأما قتل الأسير بعد أن يكون قد أصبح في عهدة القبيلة فأنه يعد من العيوب السوداء، والتي تلقى الاستهجان بين القبائل.



التعامل مع الجرحى

كانت الحروب القبلية في الماضي تتم بالسلاح الأبيض وبالبندقية التقليدية. وكان معظم  الإصابات التي يصاب بها المتقاتلون طعنات بالسلاح الأبيض. وكان يوجد في بعض المناطق مجارحون - أطباء تقليديون - من المزاينة من فئة بني الخمس المحمية، مهمتهم معالجة الجرحى في أثناء الحرب. وكان المجارحون يدخلون ميدان المعركة وهم يحملون عصا عليها علم أبيض. وهذه العلامة خاصة بهم تميزهم عن المحاربين، وهو ما يمنحهم الحماية الكافية لأداء عملهم.
ومن ناحية أخرى يمنع العرف الحربي الإجهاز على جريح لأنه يعد شخصا عاجزا، إذ أن من العيب قتل شخص لا يستطيع القتال. غير أنه قد يحدث أن يقتل الجريح لسد دين دم كما شرحنا في حالة التعامل مع المستسلم, وإن كأن هذا الفعل يلزم الفاعلين دفع غرامة على هذا العيب.
وأما المجارحون فأن العرف قد حصنهم وجعل الاعتداء عليهم بمثابة عيب أسود تدفع ديته بـ المهدعش ويمنح جزء كبير منه لأسرة المجارح.



الأسلحة المحظورة والمسموحة في الحرب القبلية

حتى فترة ما قبل الثورة في اليمن عام 1962 كانت الأسلحة التي في حوزة القبائل لا تتعدى البنادق غير الآلية. غير أن الحرب الأهلية التي نشبت بعد ذلك بين الجمهوريين والملكيين ودارت رحاها في المناطق القبلية وكان رجال القبائل هم الأطراف الرئيسية المشتركة فيها؛ قد أدت إلى زيادة كمية الأسلحة لدى القبائل، وامتلاكهم أسلحة جديدة لم يكونوا يملكونها من قبل, كالأسلحة الرشاشة, والمدافع والقنابل اليدوية والألغام.
وتملك القبائل لهذه الأسلحة وفر لها قدرات تدميرية كبيرة، إلا أن طبيعة الحرب القبلية، والتي تهدف إلى تحجيم الأضرار، قد جعلت القبائل تتحاشى استخدام الأسلحة الفتاكة في حروبها، وتكتفي باستعراض قوتها من خلال إطلاق قذائف المدفعية في المناطق الخالية لغرض التخويف.
وليس هناك ما يشير في العرف الحربي التقليدي إلى أي منع لاستخدام أسلحة معينة لأنها ببساطة لم تكن موجودة. ولكن بعد أن وجدت الأسلحة ذات التدمير العالي فأن كثير من القبائل قد وضعت "مراقيم" - اتفاقيات - فيما بينها تمنع استخدام المدافع الثقيلة في قصف القرى. كما أن الألغام محظور استخدامها, وتعد عملا من أعمال الاغتيال والغدر. فالثقافة القبلية تحث على الفعل الحربي المتكافئ والمواجهة المباشرة بين الخصوم, واللغم بكونه سلاح يودي إلى قتل بدون تمييز، مثله مثل المدفعية الثقيلة التي تطلق من مسافات بعيدة، يعد عملا من أعمال الغدر.
وبسبب أن هذه الأسلحة دخلت المجتمع القبلي في وقت متأخر فأن قواعد المنع والعقوبات ضد المخالفين لم تتضح كما هو حال العقوبات الأخرى التي قد تم الالتزام بها من فترة طويلة. ولهذا فأن الالتزام بمنع استخدام هذه الأسلحة لا يتم العمل به في الوقت الحاضر بشكل مطلق، حيث تلجأ كثير من القبائل إلى استخدام الأسلحة الثقيلة في حربها مع القبائل الأخرى وإن كانت عملية استخدام هذه الأسلحة لا يكون هدفها التدمير بقدر ما يكون نوعا من أنواع  استعراض القوة،كما ذكرنا. إلا أن حكم استخدامه يتم تقديره من قبل المحكمين في أثناء عملية الصلح.
وإلى جانب منع استخدام بعض الأسلحة يمنع العرف الحربي القتل الذي يتم بواسطة وسائل مهينه كالذبح بالسكاكين التي تذبح بها الحيوانات, أو القتل عن طريق الحرق, أو أية عملية قتل تعتبر بشعة ومهينه للمقتول. فهذه تعد من العيوب الجالبة للشجب والاستنكار.

التعامل مع الموارد الاقتصادية

  وجد المجتمع القبلي في الأساس بسبب اقتصاد الكفاف والندرة، ومعظم الصراعات القبلية ناتجة بشكل أو بأخر عن صراع على الموارد المحدودة، كما أن معظم العقوبات في العرف القبلي هي عقوبات مادية. ونتيجة لما للموارد الاقتصادية من أهمية؛ فقد عمل العرف الحربي القبلي على الحد من الأضرار الاقتصادية وتحجيمها إلى الحدود الدنيا، وهو ما سنشير له في النقاط التالية:
1- يفرض العرف الحربي التعويض المادي عن إي أضرار مادية تسببت بها الأطراف المتحاربة، أكان ذلك بشكل مباشر كعمليات التدمير المتعمدة أو النهب، أو الأضرار الغير مقصودة، والتي قد تنشى من خطاء أثناء الحرب. وتشتمل الموارد الاقتصادية المباني والحقول وآبار المياه والثمار والمحاصيل والمواشي والحيوانات بما فيها الكلاب، ووسائل النقل، وكل ما له قيمه اقتصادية. ويتم التعويض عن هذه الأضرار بعد انتهاء الحرب مباشرة قبل النظر في القضايا الأخرى. فما أن تتوقف الحرب، حتى يشرع الوسطاء والمحكمون بحصر الأضرار التي وقعت على جميع الأطراف وتقييمها وتثمينها، ومن كانت خسارته أكثر من غيره أصبح دائن للأطراف الأخرى يلزمها سداد هذا الدين بشكل كامل.
وفي المناطق القبلية الزراعية، والتي تعد غنية نسبيا، يتم دفع قيمة الأضرار بما يساويها. أما في المناطق البدوية،الأكثر فقرا، فتتضاعف قيمة الإضرار إلى أربعة أضعاف. فكل ضرر مادي يلزم فاعلة بالتعويض بما يساوي قيمته أربع مرات. ومع ذلك؛ فإن المحكمين هم من يقرر حجم التعويضات، ونوعيتها، وطريقة الدفع والمدة الزمنية، الواجبة للدفع.
2- معظم العقوبات التي تُـفرض على المخالفين للأعراف (العيوب) مادية في الأساس، فانتهاك قاعدة ما؛ كخرق بنود اتفاقية الصلح أو الاعتداء على الأطراف المحمية، تكون عقوبتها في العادة مادية، إلى جانب العقوبات الرمزية. ومن الملاحظ أن غرامة هذه العيوب تتغير مع التغيرات الاقتصادية في المناطق القبلية، حيث نجد بأن قيمة الغرامات قد ارتفعت بشكل كبير بعد أن تحسنت أوضاع القبائل الاقتصادية وزادت مواردها. ويتم كل ذلك وفقا لطبيعة العرف المتغيرة والمتكيفة مع الظروف المحيطة.

 

التعامل مع المنشات العامة والدينية 

لا يسمح العرف الحربي بتدمير المنشات كالمساجد، والمقابر والمزارات الدينية والمدارس التقليدية (المعلمات). فأي ضرر متعمد يقع على هذه المنشات يعد بمثابة عيوب تضاعف قيمة التعويض عنها. وتفقد هذه المنشات تميزها في حال تم استخدامها كموقع عسكري أو التمترس بداخلها. وفي كل الأحوال فإن القبائل المتحاربة تتجنب الأعمال العسكرية بالقرب من المناطق الدينية. غير أن هذه الأماكن كانت تنتهك حرمتها وتتعرض للنهب من القبائل، في المدن غير القبلية، والتي لا تخضع للعرف الحربي القبلي، وهو ما سنوضحه لاحقا.



إجراءات إنهاء  الحرب

هناك قول قبلي يستخدم بكثافة  يقول " الثالث واسطة " ويعني هذا المثل أن على أي طرف ثالث يجد نفسه أمام نزاع أن يبادر بتقديم وساطته لإنهاء النزاع. وقد شاعت الوساطة بسبب غياب الحكومات المركزية, وتعود الناس على أن يحلوا خلافاتهم بأنفسهم عن طريق عمليات التحكيم التي يقوم بها الوسطاء.
وينعكس هذا السلوك في اليمن وتحديدا في المناطق القبلية في كل مناحي الحياة، فنلاحظ عند وجود خلاف في الشارع، كالخلافات الناتجة عن الحوادث المرورية، يتدخل الناس بشكل تلقائي من أجل إيجاد حل بواسطة وسطاء يرشحون أنفسهم لهذا الدور دون طلب من أطراف النزاع, وليس بالضرورة أن يكون للوسطاء معرفة بأطراف النزاع.
وينسحب هذا السلوك بشكل واضح على النزاعات والحروب القبلية. فالقبائل غير المشتركة في النزاع تجد أن من واجبها أن تتدخل في حل النزاع دون أن يكون لها مصلحة مباشرة. ويتم هذا الأمر قبل بدء الحرب وأثنائها. فكما أشرنا سابقا، فإن القبائل الغير مشتركة في الحرب، تبادر حين إعلان الحرب للتدخل لدى الطرف الذي أعلنها كي يؤجل الحرب حتى يحاولوا التوصل لصيغة تحل المشكلة التي أوجبت الحرب.
أما بعد اندلاع الحرب فهناك الكثير من الوسائل والإجراءات التي تتم لإيقاف الحرب بإنهائها، أو تجميدها، ويمكن الإشارة إلى عدد منها فيما يلي:

المفاوضات المباشرة:

تحدث المفاوضات المباشرة حين يبادر أحد أطراف النزاع بإرسال رسول، في الغالب ألدوشان, إلى القبيلة الخصم, ويقدم اقتراحا بطلب حل النزاع عن طريق المفاوضات, وفي الغالب فإن من يقوم بهذه المبادرة هو الطرف المدين بالدم. وفي هذه الحالة؛ يتطلب من الطرف المبادر أن يقدم بنادق للقبيلة الأخرى تختلف تسميتها تبعا للمقصد من التفاوض؛ فإن كان الهدف تحكيم الخصم سميت (بنادق تحكيم) وإن كان الهدف اعتراف بخطاء سميت (بنادق الصواب)، وإن كان الهدف وقف مؤقت للحرب سميت (بنادق المرزى). وعلى الخصم في هذه الحالة أن يتعامل مع هذه المبادرة إما بقبول البنادق وبالتالي سينتقل النزاع إلى مستوى جديد، أو رفضها، وهو عادة لا يتم بشكل مباشر، حيث أن هناك طرق ملتوية للرفض من قبل إعادة التحكيم للطرف المبادر فيتحول هو الحكم على نفسه، أو يتم نقل التحكيم لطرف ثالث كي يتم تجنب الإحراج.
وفي الغالب فإن القبائل تلوم الطرف الذي يرفض قبول البنادق من الخصم، حيث ينظر العرف لمن بادر بإرسال البنادق لخصمه بأنه أظهر حسن النية، وأعترف بالخطاء بشكل من الأشكال، وهو ما يستوجب الترحيب والتفاعل الايجابي.
وفي الغالب لا تتم هذه العملية إلا في ظروف خاصة؛ كأن يكون النزاع بين قبائل متجاورة ولديها مصالح اقتصادية مشتركة وعلاقات قرابة ومصاهرة، أوفي حالة ارتكاب العيوب السوداء، والتي تتطلب من القبيلة أن تبادر إلى الاعتراف بالخطاء والاعتذار عبر تقديم البنادق للخصم.

تدخل طرف ثالث:

تعد هذه الوسيلة هي الأكثر شيوعاً في المجتمع القبلي، حيث يبادر طرف ثالث، والذي قد يكون قبيلة واحدة أو عدة قبائل، بجس نبض القبائل المتصارعة عن طريق إرسال رسائل لأطراف النزاع بواسطة الدوشان أو عبر وسائل أخرى باقتراح وقف الحرب. وعندما يشعر الطرف الثالث أن هناك استعداد من الأطراف المتحاربة للقبول بوساطته؛ يبادر بالذهاب إليهم في حشد كبير من أفراد القبيلة، أو القبائل، حاملين أسلحتهم ويتقدمهم الدوشان, وعلى أصوات الطبول و(الزوامل) وحاملين الرايات البيضاء إلى مناطق القبيلتين، وأحيانا الدخول إلى ساحة المعركة بعد أن يتم إعلام طرفي الحرب بمقدمهم.
ويلزم أطراف الحرب عند مقدم الوسطاء أن يوقفوا الحرب, ويقوموا باستقبالهم كضيوف عن طريق ذبح الحيوانات تكريماً لمقدمهم.
وبعد أن يصل الوسطاء يقومون بأخذ بنادق بشكل متساو من أطراف الحرب واختيار "فروع"  (كفلاء) من كل قبيلة يكون في العادة مشايخ وأعيان كل قبيلة، أو من قبائل أخرى، ويتم تسمية الفروع والضمناء لهم. وهناك عدة طرق لاختيار الضمناء من قبيل: قيام الوسطاء باختيارهم، أو أن كل طرف يسمى ضمنائه وفي هذه الحالة يشترط قبول الوسطاء والطرف الأخر لهم، أو أن كل طرف يختار ضمناء الطرف الأخر. يضاف لهؤلاء في بعض الحالات ضمناء إضافيين يسمون بـال "ردما"، وهم الضمناء من قبائل أخرى، والذي يتم اختيارهم لما يسمى "تثقيل" الضمان.
وبعد ذلك يتم اختيار الجهة أو الجهات التي ستحكم في النزاع. وفي الغالب يتم اختيار الوسطاء الذين قاموا بوقف الحرب محكمين أو يضاف لهم أشخاص آخرين من قبائل أخرى بموافقة أطراف النزاع.

التدخل الحكومي:

 في بعض حالات الحروب القبلية يتم إيقافها عبر التدخل الحكومي المباشر أو غير المباشر. وفي حالة التدخل المباشر؛ تقوم السلطات بإرسال قوات تابعة لها تتمركز في خطوط التماس، وفي الغالب يتم هذا الأمر بالتنسيق بين الأطراف المتحاربة، ومن ثم تقوم الحكومة باستدعاء زعماء القبائل المتحاربة أو حتى حجزهم، وإلزامهم بإيقاف الحرب عن طريق اختيار وسطاء من السلطة أو من القبائل الأخرى.
أما في حال التدخل غير المباشر من الحكومة فيتم عبر إرسال وسطاء من قبائل محايدة أو مسئولين حكوميين أو من خليط منهما، إلى أطراف النزاع وممارسة وسائل الترغيب والترهيب التي تمتلكها الحكومة لجرهم نحو إيقاف الحرب وإنهاء النزاع.
وعلى العموم ليس هناك من نمط محدد لتدخل الحكومة في حل النزاعات القبلية؛ فكل حرب قبلية تجد نمط تدخل مختلف تبعاً لطبيعة الحكومة وفلسفتها في الحكم.

الضغط القبلي:

يحدث في بعض الحالات أن أحد أطراف الحرب يرفض مبادرات الوساطة التي تقوم بها أطراف ثالثة، فيما يقبل الطرف الأخر بها. وفي هذه الحالة قد تقوم القبائل المحايدة بعملية تسمى "الُقبلة"، والتي تعني أن تجمع قبيلة، أو عدة قبائل غير مشتركة في النزاع، أعدادا كبيرة من الرجال بكامل أسلحتهم الخفيفة والثقيلة، أحيانا، والتوجه إلى ساحة المعركة وتدخل بهذه القوات على الطرف أو الأطراف الرافضة للصلح وتعتبر نفسها ضيوفا على هذه القبيلة التي تكون ملزمة وفقاً للثقافة القبلية أن تستقبلهم وتستضيفهم، وهو ما يعني أعباء مادية كبيرة، خاصة إذا كان عدد هؤلاء كبيرا.
 وتعمل هذه الوسيلة على أجبار القبيلة الرافضة للواسطة على القبول بها حتى تتخلص من عبء إعاشة الأعداد الكبيرة من الضيوف.
وتلجا القبائل إلى أسلوب الضغط هذا في الحالات التي تكون الحرب قد وصلت فيها إلى مرحلة عالية من التدمير والعنف وسفك الدماء, وهو ما يستحث القبائل الأخرى على التدخل لوقفها، فالحروب التدميرية تعتبر حالة من انحراف الحروب القبلية عن أهدافها الأصلية، حيث أنها، كما سبق وذكرنا، لا تستهدف القضاء على الأخر بقدر ما تهدف إلى الحصول على حق، أو رد اعتبار لإهانة وقعت عليهم.
وقد كانت الحكومات المركزية تمارس وسائل ضغط مشابهة من أجل إيقاف الحروب القبلية، عندما ترسل قوات كبيرة لمناطق النزاع وتلزم أطراف النزاع بإعاشتهم طوال فترة بقائها عندهم.
إن عملية وقف إطلاق النار والتي تتم بأية طريقة مما ذكر يتبعها إجراءات تؤدي إلى وقف الحرب، وليس إنهاء الصراع؛ فاجرات وقف الحرب تتطلب بعد أن يوافق أطراف الحرب على وقف إطلاق النار أن يسلموا أسلحة (بنادق)  - أسلحه متنوعة قد تتضمن أسلحة ثقيلة وسيارات- يختلف عددها بحسب طبيعة النزاع، وتسلم للوسطاء. وتعد هذه البنادق بمثابة تعهد من طرفي الحرب بوقفها. وبعد أن يتسلم الوسطاء المحكمين هذه الأسلحة يطلب من كل طرف أن يختار "فروع" (كفلاء) وضمناء كما سبق وذكرنا. وتكون مهمتهم تقديم الدعاوى، والإيفاء بكل ما سيترتب على القبيلة من التزامات مالية أو عسكرية. فالضمين يقال عنه بأنه: ضمين "مشرف" "مقرب" "موفي" "قراع"، فالتشريف يعني القبول بالحكم, والتقريب يعنى أن يأتي بالخصوم وقت الطلب، والموفي أن يدفع الالتزامات التي تقرر على من ضمنه, والقراع، يعني معاقبة من هو ضامنه أن خالف الحكم.
وبعد أن تتم تلك العملية؛ يقوم المحكمون و بحضور الضمناء بعمل "مرد" (محضر)  يُذكر فيه كل المعلومات عن النزاع وعن طبيعة التحكيم, وأسماء المحكمين, وذكر الالتزامات الأولية على الطرفين, كعملية فصل القوات من خطوط التماس, وذكر ما يجب على كل طرف أن يقوم به من التزامات خلال فترات النظر في القضية, وذكر التواريخ التي ستبدأ فيها عملية النظر في القضية والتي تشبه عملية الترافع القضائي.
وتتم عملية الترافع، في العادة، بالتناوب في منطقة الطرفين يوم بيوم كي يتحمل كل طرف بالتساوي نفقات استضافة المحكمين وأطراف النزاع. إذ أن على القبيلة التي تستضيف الاجتماع أن تقوم باستضافة الخصوم والمحكمين ومن يرافقهم في اليوم الذي يعقد الاجتماع في أراضيها. ويتم توزيع عبء الاستضافة على جميع أفراد القبيلة وإن كان المشايخ يتحملوا العبء الأكبر. ويعتبر هذا الإجراء أحد وسائل الضغط المادي الذي يمارس على أطراف النزاع  لكي يتوصلوا  لنتائج بأسرع وقت ممكن.
ومن الالتزامات المهمة على القبيلة المستضيفة ضمان سلامة وحسن معاملة المحكمين والخصوم والذي يسمح لهم بحمل أسلحتهم أثناء وجودهم في القبيلة الخصم. وتعتبر عملية الاعتداء على الخصوم أو المحكمين أثناء عقد الاجتماعات من أكثر الأمور مدعاة للشجب والاستنكار, فهي من العيوب السوداء التي تضاعف غرامتها إلى حدود كبيرة. كما أن القبيلة التي تقوم بهذا الفعل تفقد احترامها وثقة القبائل الأخرى بها, التي تعد عملها نوعا من أعمال الغدر.
وهناك حالات يتم فيها عقد جلسة التحكيم في منطقة ثالثة كمنطقة المحكمين أو أي مكان أخر. وفي هذه الحالة يتحمل تكاليف الاستضافة أطراف النزاع بالتساوي.

أنواع التحكيم وإجراءاته:

هناك نوعان من التحكيم, النوع الأول والذي يعتبر حكم المحكمين نهائي ولا يقبل الطعن والاستئناف, ويسمى أحيانا التفويض المطلق. والثاني التحكيم القابل للاستئناف, ويسمى "تحكيم وله المنها".
ففي النوع الأول يتم تفويض المحكمين في النظر في القضية وعلى المحكمين قبول نتيجة التحكيم "تشريف الحكم"، وتنفيذه دون إي اعتراض.
أما في حال التحكيم القابل للاستئناف؛ فإن من حق الطرف الذي لم يقبل بالحكم أن يستأنفه عند محكمين آخرين يسمون (المراغة)، أو (المصفى) كما يطلق عليهم في بعض المناطق، ومهمة هؤلاء النظر في الأحكام التي صدرت من المحكمين في الدرجة الأولى للتقاضي.
وفي أعلى هرم التقاضي القبلي هناك هيئة تسمى (المنها) وقد يكون هؤلاء ممن يحمل صفة شيخ المشايخ، أو أشخاص تعاهدت القبائل على استئناف الأحكام لديهم. ويعد حكم هذه الهيئة حكما نهائيا وباتا.
والجدير ذكره أن الطرف المستأنف يتحمل الغرامات المترتبة على عملية الاستئناف إن أقرت هيئة الاستئناف الحكم مع تقديم اعتذار - ذبح أغنام أو مواشي ما يسمى هجر- للمحكم الذي تم استئناف حكمه. وأما إذا نقضت هيئة الاستئناف الحكم فإن على المحكم – المحكمون - دفع تكاليف عملية الاستئناف.
وفي الغالب فإن محكمي الحروب الكبيرة غالبا ما تنظر من قبل محكمين في درجة "المنهاء" ويكونوا في العادة من مشايخ القبائل الكبيرة, وفي الغالب من أكثر من شخص.
والجدير بالذكر، أن للمحكمين أن ينقلوا عملية التحكيم إلى غيرهم بشرط أن يوافق الخصوم عليهم، وتسمى هذه العملية فيما نقل "الحكومة".

وبعد أن يتفق أطراف الحرب على المحكمين وعلى نوع التحكيم، تأخذ هيئة التحكيم من الفرقاء بنادق "أسلحة متنوعة" تسمى بنادق العدال أو بنادق التحكيم. وتكون هذه البنادق رمز القبول بالتحكيم, وكذلك بمثابة تعهد بقبول نتيجة التحكيم.
  وتبدأ عملية النظر في القضية من خلال تقديم كل طرف لدعواه، والتي تتضمن حصرا  لكل مطالبه السابقة على الحرب والتي نتجت عنها. وتشمل الخسائر المادية والبشرية والمعنوية, وتحديد العيوب الذي يدعي كل طرف بأن الطرف الآخر قد قام باختراقها؛ كقتل امرأة أو طفل أو أي من الفئات المحمية ذاكراً بالتفصيل مكان وزمان هذه الاختراقات. وأما الخسائر المادية فتشمل المباني والمزروعات والحيوانات وغيرها.
وبعد أن يقدم كل طرف دعواه يطلب من الطرف الآخر الإجابة على هذه الدعوى. فإن اعترف بما ورد فيها؛ فتتحدد المسئولية بسهولة، وأما إذا أنكر ما جاء في دعوى الخصم فيلزمه اليمين  بواسطة "الحلافة"[26] (المكلفين بأداء اليمين).
وتتم إجراءات أداء اليمين وفقا لقواعد محددة، أهمها أن كل طرف يقوم بتسمية "الحلافة" من الطرف الآخر، فكل قبيلة تختار الحلافة من القبيلة الخصم والعكس. وقد روعي أن يتم ذلك لأن كل طرف سيحاول أن يختار من يعتقد بنزاهتهم وصدقهم, وبالتالي يكون يمنيهم معتبرا وذو مصداقية.
ولكل قضية مثار خلاف عدد محدد من الحلافة، ينطبق ذلك على فترات السلم والحرب؛ فدعوى سرقة الغنم أو قتلهن يتطلب ثلاثة حلافة من طرف المدعى علية، وفي خلاف البقر سبعة حلافة، وفي قضية خلاف الأرض يتطلب الآمر عشرة حلافة. وأما في دعاوى الدم فيحتاج الأمر أن يحلف اثنان وعشرون شخصاً، ويصل عدد الحلافة في القضايا المختلف عليها في العيوب إلى أربعة وأربعون حلافا.
وتتحدد مهمة الحلافة في القيام بالقسم أمام المحكمين والخصوم بأن دعوى الخصوم باطلة, أو أن المخالفة لم تكن متعمدة. فإن أدعى طرف بأن خصمه قام باستهداف وقتل شخص مهجر كالدوشان مثلاً، وهو ما يعتبر عيب أسود، فإن أقر الخصم بهذا الادعاء لزمه أن يدفع عقوبة هذا الفعل المادية والمعنوية، وإذا أنكر هذه الدعوى فعلى الحلافة ألأربعة والأربعون أن يقسموا بأن قتل ألدوشان لم يكن مقصودا بحسب ما يعلمون. وبعد أداء اليمين تسقط غرامة العيب عنهم, إلا أن دية الدوشان الشرعية لا تسقط وعليهم دفعها.
وتنطبق هذه القاعدة أيضا في أوقات السلم فأن وجدت جثة شخص في حرم منطقة لقبيلة ما؛ فإن قبيلة أهل القتيل تطلب حلافة، يختارون بنفس الكيفية التي ذكرناها، من القبيلة صاحبة الأرض, يقسمون بأنهم لم يشاركوا في القتل وأنهم لا يعلموا من قتله أو كيف قتل. وفي حال رفض أحد الحلافة أداء القسم تصير الدعوى ثابتة على القبيلة التي وجدت الجثة فيها، وإذا حلف الجميع فيسقط الدم على القبيلة ولكن حق الدية لا يسقط، وعلى القبيلة التي قتل فيها الشخص أن تدفعه.
وهكذا فإن حلف اليمين فيما يخص العيوب أو ادعاءات الدم لا تسقط الحق الشخصي في التعويض المادي.
وعليه فإن أطراف النزاع أثناء عملية التحكيم يدعون ويردون على بعضهم البعض، وفقا لهذه الآلية، والتي تتم في حضور المحكمين والخصوم. ويتم تسجيل كل دعوى ونتيجتها.
بعد ذلك يتم حصر ما ثبت فعلاً أنها أضرار حقيقية بعد أن يتم تجميع قيمة خسائر كل طرف بعمله متعارف عليها، مثل الريال الفضي" الفرانصي"[27] وبعد أن يتم تجميع خسائر كل طرف يتم عمل مقاصة بينهم فمن تبقى عليه أكثر يتم وضع طريقة التسديد وتاريخ السداد.
وعلى القبيلة التي فرضت عليها عملية السداد بعد ذلك أن تجتمع لتحدد كيفية السداد ومن عليهم الدفع. ووفقا للنظام القبلي فإن جميع الرجال من فئة القبائل ملزمة بالمشاركة بتحمل العبء، واللذين يسمون بـا "الغرامة".
وفي الجهة الأخرى "القبيلة المنقوصة" يتم توزيع التعويضات على المتضررين أو من "غرمو" (تحملوا تكاليف الحرب)، ويحتسب من ضمن الخسائر المادية "أروش الجرحى"  وغرامة العيوب. ولتوضيح كل هذه العملية نفترض المثال التالي:
عندما يقوم المحكمون بتجميع خسائر طرفين وبلغ إجمالي خسائر الطرف (س) 10000 ريال "فرانصي" وإجمالي خسائر الطرف (ص) 8000 ريال فرانصي, تتم عملية المقاصة ويصبح الطرف (س) مدينا للطرف (ص) بمبلغ 2000 ريال فرانصي, عليه أن يسدده خلال ثلاث سنوات. وفي العادة تكون فترة السداد هي فترة صلح (هدنة).
أما ما يتعلق بقضايا القتل فإن لها إجراء آخر، فبعد أن يتم حصر وتأكيد قتلى كل طرف من قبل المحكمين، يتم وضع إجمالي لعدد قتلى كل طرف, وبعدها يتم عمل مقاصة, ومن أصبح عليه عدد أكبر من القتلى يتحتم عليه أن يقضي. ومن عنده زيادة "المنقوص" فيعتبر "مسلف" (دائن) ومن حقه بعد فترة الصلح، إن عقدت، أن يأخذ بثأره بما يساوي العدد الذي عند القبيلة الأخرى.
 وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حسبة الدم تقتصر على الذكور من فئة القبائل فقط، بما فيهم الأطفال الذكور منهم. وأما القتلى من النساء أو من الفئات المحمية الأخرى فيكتفى بالتعويض المادي فقط ولا يدخلون في حساب "السلف والقضاء".
 فالثقافة القبلية ترى أن دين الدم لا يسدده إلا الدم, أي أن من حق القبيلة المنقوصة أن تنتقم لدمها بنفس العدد من الطرف الآخر. وتجد هذه القاعدة تعبيرها الواضح في المجتمع القبلي البدوي الذي يندر أن يُـتنازل عن الدم مقابل التعويض المادي المعروف بالدية. غير أن القبائل الزراعية؛ قد تقبل التعويض المادي عن الدم "القتلى" وإن كانت القاعدة العامة رفض التعويض المادي عن القتل، فالدم لا يباع، وفقاً للثقافة القبلية التي تعتبر من يقبل بالتعويض المادي كأنما يقوم ببيع دمه للآخرين, وأن قبوله بذلك ناتج عن الضعف والجبن من الانتقام للدم الذي خسره.
وعلى الرغم من أن قضية الدم تبقى معلقة وبدون حل مباشر, إلا أن الحروب القبلية ترحل حلها للمستقبل، وعوضا عن ذلك يتم وضع اتفاقات (مراقيم) تنهي الحرب لمدة محددة، فيما يسمى (صلح) وتكون هذه المدة بمثابة هدنة لا يجوز فيها الأعمال القتالية.
وتتضمن المراقيم تفاصيل الصلح كاملة، والتي تشمل التزامات أطراف الحرب والضمناء والكفلأ، وما يتوجب على كل طرف عمله أو تجنبه خلال فترة "الصلح" والعقوبات التي تفرض على المخالفين، وكذلك طبيعة العلاقة المستقبلية بين أطراف النزاع وغيرها من القضايا التي تفرضها كل قضية.
ومما يجدر ذكره هنا أن تعويضات الحرب لا تكون أموال نقدية أو عينية فقط؛ ففي بعض الحالات النادرة يتم التعويض بأراضي، وحتى مناطق بسكانها للطرف المنقوص. ويصبح السكان من ضمن القبيلة الأخرى التي قد تكون من اتحاد قبلي أخر[28].

وقبل أن نختم هذا الجزء، لا بد من الإشارة إلى عدد من الآليات النمطية في تحديد حجم الغرامات، ومن ثم تخفيضها. فعلى سبيل المثال، عقوبات العيوب، تتم مضاعفاتها بشكل مبالغ فيه في منطوق الحكم، ثم يتم تخفيضها لتصبح العقوبة معقولة وتتناسب مع الفعل وقدرة المعاقب على السداد. ففي أكثر الأحكام التي تعالج منازعات فردية أو جماعية (الحروب) يكون مبلغ التعويض عاليا، فيقال مثلا على القبيلة (س) أن تدفع للقبيلة (ص) مقابل ارتكابها عيب أسود "مربوع المهدحش" (أربعة أضعاف الرقم 11) والذي يعني 44 ضعف العقوبة العادية. فإن كانت العقوبة العادية هي الدية، فإن العقوبة تصبح 44 دية، غير أنه وفي نفس الحكم يتم الإشارة إلى إسقاط ثلث العقوبة، نتيجة قبول القبيلة (س) التحكيم، ثم يتم إسقاط ثلث أخر نزولا عند طلب المحكمين، فيما الثلث الأخير قد يخضع لخصميات جديدة أو أنه يصبح المبلغ الأخير الذي يستوجب على القبيلة (س) دفعة، وهو المبلغ الذي يعادل 14 ضعف، وهو القريب من العقوبة الأصلية (المهدعش).

يشار إلى أن الأحكام القبلية كانت، ولازال بعضها، يصاغ باللغة المحكية –اللهجة الدارجة- وكانت الحروف تكتب كما تحكى دون مراعاة لقواعد النحو والكتابة المعمول بها في اللغة العربية. ونتيجة لذلك؛ تصبح قراءتها وفهمها صعبا لمن لا يعرفون اللهجة التي كتبت بها هذه الأحكام.



التحالفات القبلية أثناء الحرب

لا يستتبع حدوث حرب بين قبيلة من تجمع قبلي ما، وقبيلة أخرى من تجمع قبلي أخر، انحيازا تلقائيا لقبائل التجمعين للقبيلة التي تنتميان له. فالقبيلة ضمن التجمع القبلي لها شخصيتها المستقلة، ومن ثم شخصيتها الاعتبارية الخاصة التي تمنحها الحقوق وتتحمل تبعا لها المسئوليات والواجبات. وهذا الأمر يحد من انتشار الحروب القبلية ويجعلها مقتصرة على القبائل المتورطة في النزاع بشكل مباشر. وفي حالات نادرة جدا تتوسع الحروب لتشمل التجمعات القبلية.
فعلى سبيل المثال؛ لو حدث أن نشبت حرب بين أحدى قبائل أرحب، والتي تتكون من عشر قبائل مع إحدى قبائل ذو حسين والتي تتكون من ثمان قبائل، فإن الحرب تبقى محصورة بين القبيلتين المتحاربتين فقط، ولا تتوسع لتشمل جميع قبائل أرحب أو ذو حسين، إلا في حالات نادرة، وهي الحالات التي تستدعي أحد القبائل المتحاربة الدعم والمساندة من التجمع القبلي الذي تنتمي له، وهو الطلب الذي يخضع لتقدير القبائل المستدعاة، وفي الغالب فإن هذه الاستجابة تتم في حالة حدوث خسائر كبيرة على القبيلة، أو أن التجمع القبلي الذي تنتمي له القبيلة الخصم، أو بعض منها، شاركوا في الحرب، ومن ثم أخلوا بالتوازن العسكري والسكاني.
وفي هذه الحالة؛ فإن الاستجابة قد لا تتجاوز حد استعراض القوة من خلال التجمهر والاحتشاد، والذي قد يكون الهدف منه استجلاب وسطاء أو ردع الطرف الأخر وإجباره على التراجع عن فعل ما.
ويتم الاستدعاء للقبائل الأقرب في النسب، ويتصاعد حتى يصل أقصى مداه فيما يسمى الداعي الكبير، والذي يحدث عندما يتم استدعاء جميع مكونات الاتحاد القبلي (اتحاد قبيلة حاشد، أو بكيل) في مقابل اتحاد قبلي أخر.

وإلى جانب عملية التحالف الذي تحدث في داخل التجمع القبلي الواحد، هناك شكل أخر من أشكال التحالف يسمى "المواخاة"، ويتم هذا التحالف عندما تقوم قبيلة، صغيرة في الغالب، بالتحالف مع قبيلة كبيرة أخرى قد تكون من خارج تجمعها القبلي, أو من الاتحاد القبلي الذي تنتمي له. وتحدث "المواخاة" عندما يكون هناك حرب أو نزاع بين قبيلة صغيرة من تجمع قبلي ما مع قبيلة من نفس التجمع أكبر منها, فتلجا هذه القبيلة بالارتباط مع قبيلة كبيرة من داخل التجمع القبلي، أو من خارجه، لتعزيز مركزها، والتخفيف من تأثير القبيلة الأخرى أو الاستفراد بها.
وبعد أن تتم عملية "المواخاة" تصبح القبيلتان في حالة حلف أو اتحاد ضد الخصوم المشتركين. وغالبا ما تكون هذه العملية مؤقتة واستجابة لظرف ما، فالكثير من حالات المواخاة تنتهي بعد زوال الأسباب التي استدعتها، أما حالات المواخاة الطويلة الأمد فإنها تتحول مع الزمن إلى حالة من الدمج للقبيلة الصغيرة مع المكون القبلي الذي تواخت معه، ومن ثم تصبح جزء من هذا التجمع القبلي الذي يجمعهما.
ومن الملاحظ أن نظام المواخاة يعمل على خلق حالة من توازن القوى الدائم بين القبائل، فالقبيلة الصغيرة تتقوى بالقبيلة الكبيرة وتحتمي بها.



تعامل الحكومة المركزية مع الحروب القبلية

كما سبق وذكرنا؛ فإن النظام القبلي يوجد حيث تضعف أو تغييب السلطة المركزية، وهو الأمر الذي يوفر للقبائل درجة ما من الاستقلالية عن سيطرة هذه الحكومة تختلف درجتها ونوعيتها تبعا للأوضاع السياسية في الدولة. فحين تكون هناك حكومة مركزية قوية تضعف هذه الاستقلالية والعكس صحيح. وبشكل عام؛ فإن كل أو معظم القبائل في منطقة البحث (حاشد ، بكيل) عاشت في علاقة مع سلطة مركزية ما، وإن بشكل أسمي، خلال التاريخ المعروف لليمن.
وخلال هذا التاريخ؛ تعاملت الحكومات المركزية مع الحروب القبلية بأنماط مختلفة؛ فحين كان هناك حكومة مركزية قوية، كان النمط الشائع هو منع الحروب القبلية والتعامل معها وكأنها خروج عن النظام وشكل من أشكال التمرد. وفي حالة ضعف السلطة المركزية كانت الحكومة تتدخل إما كطرف داعم لبعضها أو كوسيط، أو أنها لا تتدخل مطلقا، وتتركها تحل مشاكلها بنفسها، وكان هذا الأمر يحدث أثناء ضعف الحكومات المركزية، أو في المناطق البعيدة عن مركز الدولة.
وخلال العقود الماضية، وتحديدا خلال حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، تباين تعامل الحكومة المركزية مع الحروب القبلية، تبعا لتقدير السلطة وبما كان يتناسب ومصالحها، ففي بعض الحروب القبلية كان هناك تدخل كثيف لتطويقها ومنعها بكل الطرق بما فيها استخدام القوة، فيما كان تعامل الحكومة مع بعض الحروب بشكل مختلف تماما. إلى جانب ذلك؛ اتهمت حكومة الرئيس صالح بأنها كانت تذكي بعض الحروب القبلية لأهداف سياسية، من خلال دعم بعض أطرافها أو كل أطرافها.
غير أن القاسم المشترك في معظم تدخلات الحكومة المركزية خلال تلك الفترة، لم يكن ليصل إلى حد اعتبار الحروب القبلية عملاً غير مشروع، ومن ثم إخضاعها لقانون العقوبات الرسمي. وكان التدخل الشائع خلال تلك الفترة هو الأقرب إلى التدخل كوسيط وليس كجهة ضبط. فعندما كانت الحكومة ترسل قواتها إلى مناطق الحرب القبلية، كانت مهام هذه القوات هو إيقاف الحرب وفصل المتحاربين عن بعضهم البعض وليس تأديبهم. وفي الكثير من الحالات كانت الحكومة اليمنية تضع نفسها كحكم بين القبائل المتنازعة وفقا للعرف الحربي القبلي. وكانت تتبع العرف القبلي من حيث الإجراءات، ومن ذلك أخذ "بنادق تحكيم" من أطراف النزاع, وتكليف مشايخ قبليين أو مسئولين حكوميين بحل المشكلة وفقا لأحكام وقواعد العرف القبلي.

تطبيق العرف الحربي في حال النزاعات التي يكون طرفها غير قبلي

تشتبك القبائل في نزاعات مع أطراف من غير القبائل، كالقوات الحكومية أو قوات أجنبية كالقوات المصرية في ستينات القرن العشرين، أو القوات العثمانية التي غزت اليمن أكثر من مرة.
وفي حالة الاشتباكات تلك؛ لا تلتزم القبائل بتطبيق العرف الحربي مع تلك القوات، خاصة مع القوات غير اليمنية، وهو أمر يبدو منطقيا، حيث أن الالتزام بالعرف الحربي القبلي يتطلب أن يلتزم به جميع الأطراف المتحاربة، ولكون القوات الحكومية، أو القوات الأجنبية لا تلتزم به فإن القبائل لم تكن تتقيد بالعرف.
فالقوات الأجنبية على سبيل المثال؛ كانت تتعامل مع القبائل بصفتهم متمردين وخارجين عن القانون، وهو ما كان يستوجب معاقبتهم بأشد الوسائل، فيما كانت القبائل ترد بوسائل عنيفة ووحشية في بعض الأحيان.



النتائج

أبانت الدراسة الكثير من الجوانب المتعلقة بالقبيلة في اليمن، ومع ذلك؛ لازال هناك الكثير من العمل المتعلق بدراسة هذه الظاهرة الاجتماعية، والذي ينبغي دراستها بعيدا عن الانحيزات  المسبقة، والتصورات الجاهزة عن القبيلة. فالقبيلة في اليمن هي ظاهرة ساهم في تشكيلها عوامل كثيرة اقتصادية واجتماعية وجغرافية وتاريخية/سياسية وثقافية، وأصبحت على ما هي عليه نتيجة تلك العوامل.
ومن هنا؛ فإن القبيلة ليست ظاهرة مرضية كما يحاول الكثيرين وصفها، بل هي ظاهرة طبيعية لها أسباب للنشوء وأسباب أخرى للتراجع والاندثار، ومن ثم؛ فإن التعرف عليها عن قرب، وفقا لهذا الفهم، يساعد على التفاعل الإيجابي معها. والتفاعل الإيجابي نقصد به احتواها ضمن الاشتراطات الضرورية للدولة الحديثة، دون تصادم وخصام، ولا يعني هذا الاحتواء أن يتم وفق شروط ومعايير نمطية تمت في دول أخرى لها ظروف مغايرة لظروف اليمن.
وأهم ما ينبغي عمله في هذا الشأن؛ أن يتم استيعاب واحتواء القبيلة، وفي نفس الوقت الاستفادة من المظاهر الإيجابية للنظام القبلي ومن ذلك الكثير من القيم والمبادئ السامية التي أنتجت في المجتمع القبلي ومنها مبادئ العرف الحربي القبلي، والتي استخلصناها في هذه الدراسة.
وعلى العموم هناك عدد النتائج التي خرجت بها الدراسة يمكن اختصارها في النقاط التالية:        
1-   على عكس الصورة النمطية عن القبائل والتي تشير إلى همجيتها ونزعتها التدميرية نجد أن العرف الحربي لهذه القبائل يحمل الكثير من المبادئ والضوابط التي تحد من شرور الحرب.
2- يعد الثار بمثابة نظام عدالة قاسي، خاصة حين يتم استهداف الأفراد الغير متسببين بالأفعال الموجبة للثار، وما يزيد من قسوة هذا النظام، تطبيقه في الوقت الحالي بعد أن فقد الكثير من مبرراته؛ فحين كان يتم استهداف أي فرد من القبيلة، كان هذا الأمر يتم وفقا لحالة الوحدة العضوية للقبيلة، والتي كانت أشبه ما تكون بوحدة قتالية فعلية حيث كل فرد في القبيلة هو أشبه ما يكون بجندي، ومن ثم فإن الانتقام من أي فرد يؤدي بشكل تلقائي إلى إنقاص القبيلة مقاتل. أما في الوقت الحالي وبعد أن تغير نشاط الكثير من أفراد القبيلة وأصبحوا يمارسون أعمال ومهام غير القتال فإن الانتقام منهم يعتبر نوع من الانحراف عن المقاصد الأصلية لفكرة الثار. فبعض عمليات الثار القبلية طالت أفراد يعيشون خارج القبيلة ويمتهنون مهن غير حربية وليس لهم أي صلة فعلية بالعملية الأصلية للفعل الموجب للثار.
3- مع التطور الاجتماعي /الاقتصادي فقدت الكثير من العقوبات أهميتها، والغرض منها، فالتعويضات المادية لم تعد بتلك الدرجة من الردع بسبب زيادة دخول بعض أفراد القبائل وبالذات الزعماء.
4- لا يعني وجود قواعد العرف الحربي التزام القبائل بهذه الأعراف بشكل كامل، فالأعراف مثلها مثل القوانين العادلة في الدول المتطورة، ففي هذه الدول هناك خرق من قبل الأفراد للقوانين، إلا أن وجودها واحترام القبائل لها يعد حالة إيجابية لتماسك المجتمع ومنعه من الانهيار والتفكك. 
5- بما أن العرف الحربي القبلي أُنشئ عبر التاريخ من أشخاص أحرار ومتساوون وبالتالي فأن هولا الأشخاص قد تحروا الأنصاف والندية فالجميع مهما بلغ حجمهم يتساوون في تطبيق العرف عليهم.
6- الكثير من المناطق المهجرة لم تعد كذلك وتحديدا المدن وعلى الأخص مدينة صنعاء التي أصبحت ساحة لتصفية الثارات، ويرجع السبب إلى تراخي الدولة وغياب الجهة التي تحافظ على حرمة الساحة (المنطقة) في هذه المناطق.
7- ينبغي الاستفادة من المبادئ العامة للعرف الحربي وتحديدا تلك المبادئ التي تعمل على الحفاظ على مصالح الجميع، ورفض أي شكل من أشكال الإلغاء والتصفية للأخر، وعدم مكافئة المنتصر، واقتصار الحرب على المحاربين فقط، ومغالبة الرغبة في الانتقام خلال استضافة الخصوم أثناء عملية التصالح، والامتناع عن الانتقام في المناطق المهجرة، وغيرها من القيم والمبادئ التي ينبغي الاسترشاد بها في ظروف الحرب التي تشهدها اليمن الآن.




[1] هناك قبائل يتسمي زعمائها بالنقيب، كما هو حال الكثير من قبائل بكيل وتحديدا قبيلة أرحب، غير أن تسمية شيخ أصبحت هي الأكثر شيوعا في الوقت الحالي.
[2] قبل عام1962 لم يكن يمتلك المشايخ أي سجون خاصة بهم باستثناء قلة كان لديهم صلاحية السجن في السجون الحكومية، وبعد الثورة أصبح لبعض المشايخ الكبار سجون خاصة بهم، يتم فيها احتجاز أفراد من قبائلهم في العادة، وفي كل الأحوال فإن معظم المسجونين في هذه السجون يتم سجنهم بالاتفاق مع ذويهم إما حرصا على حياتهم من الثار أو عقابا لهم لأفعال مشينة.
[3] خنجر يضع داخل حزام ويتوسط البطن، وهناك عدة أشكال من الخناجر، لكل شكل منها رمز ووظيفة معينة سنتطرق لها لاحقا.
[4] العيب هو التوصيف المرادف لكلمة الجريمة في العرف القبلي، وهناك أنواع من العيوب، سيتم شرحها لاحقا، أخطرها العيب الأسود.
[5] قطع الطريق بغرض احتجاز سيارات أفراد ينتمون لقبيلة ما من أجل الضغط لحل خلاف مالي مع القبيلة المستهدفة، ويمارس هذا السلوك بشكل دائم في المناطق القبلية، ويتم في العادة دون إلحاق الأذى الجسدي أو المعنوي بالأشخاص المستهدفين، حيث يكتفى بإقناعهم بالتخلي الطوعي عن سياراتهم وتسليمهم وصل أمانة باستلام السيارة، ومساعدتهم في العودة إلى مناطقهم للضغط على المتسبب بالمشكلة لحلها.
[6] المذهب الزيدي هو ثاني أكبر المذاهب في اليمن ويتبعه بشكل رئيسي سكان المناطق الجبلية الشمالية الغربية من الجمهورية اليمنية، ويعد هذا المذهب من المذاهب الشيعية، وقد دخل هذا المذهب مع الأمام الهادي في القرن العاشر الميلادي وهو أول إمام يحكم في اليمن ، وقد استمر حكم ألائمه لأكثر من ألف عام.
[7] شروط الإمامة في المذهب الزيدي 14 شرط أهمها الانتساب للحسن، والحسين أحفاد النبي محمد، والذي يتم اختصارهم بمصطلح البطنين.  
[8] يجيز المذهب الزيدي لمن يرى في نفسه الحق والكفاءة والشروط إدعاء الإمامة والخروج على إمام قائم، وقد ساهم هذا الأمر في انتشار الفوضى السياسية في المناطق الزيدية.
[9] يقصد بالسلف الدين، وبالقضاء السداد، ومعنى هذه القاعدة أن الطرف الذي أوقع خسارة، مادية أو بشرية، في خصمه يعتبر مدينا للطرف الخاسر والذي يسمى (المنقوص) ومن ثم يتوجب عليه سداد الدين، البشر بنفس العدد والأموال بنفس القيمة. 
[10] في حال رافق الفعل المؤدي للخسارة خرق قاعدة عرفية (أرتكب عيب) فإن على الفاعل دفع غرامات إضافية.
[11] تنتمي معظم قبائل حاشد وبكيل (القبائل المبحوثة) تاريخيا إلى المذهب الزيدي، وهناك أقلية من قبيلة بكيل تنتمي للمذهب الشافعي، وأقلية أصغر إلى المذهب الإسماعيلي (بعض قبائل وائلة التي تقطن على الحدود الجنوبية للسعودية) ورغم ذلك ليس هناك إحساس بان هذا الاختلاف المذهبي قد انعكس على أي شكل من أشكال الانتقاص من حقوق القبائل المختلفة مذهبيا.
[12] يسمح النظام القبلي لأي قبيلة أو شخص أو أسرة بعقد تحالف مع قبيلة أخرى، والذي يعرف بالمواخاة، وتتم هذه العملية في الغالب من قبل الأطراف التي تشعر بالضعف تجاه خصم أكبر منها، وقد يكون هذا الخصم من نفس المكون القبلي أو مجاور لها. وتتم هذه العملية عبر اتفاقات ثنائية بين أطراف المواخاة ويتم الإعلان عنها بشكل علني في الأماكن العامة كالاسواق أو التجمعات القبلية التي قد تعقد لهذا الغرض. ويساهم هذا النظام بخلق حالة من توازن القوى الدائم بين الكيانات القبيلة. 

[13] إلى ما قبل ثورة سبتمبر عام 1962 كان القبيلي، والذي هو محارب، يميز نفسه من خلال نوعية الخنجر الذي يحتزمه، فالجنبية العمودية هي التي يحتزمها القبيلي، فيما الفئات المحمية لها خنجر خاص يسمى التوزه والذي يتدلى بشكل أفقى. 
[14] يقوم الدوشان بوظائف مهمة في النظام القبلي، فهذا الشخص والذي ينتمي لأسر غير محاربة يقوم بأدوار عديدة أهمها: التحدث باسم القبيلة في الأسواق والأماكن العامة، ونقل الرسائل الكتابية والشفهية بين أطراف الحرب، ونقل الجرحى، وهو بهذه الصفة محمي من الاعتداءات ويعتبر الاعتداء عليه من العيوب. إلى جانب ذلك؛ يمارس الدوشان وظيفة تمجيد القبيلة وزعمائها من خلال نظم كلمات تمجدهم وتتلى بصوت عالي في المحافل التي يلتقي فيها بهؤلاء الزعماء. 
[15] هو الزعيم المعترف به من قبل الغير (القبائل الأخرى ، وسلطات الدولة) والذي يمثل القبيلة ويلتزم باسمها، ويقدم الضمانات المطلوبة منها.
[16] تسليم السلاح (البنادق) من الأمور الرمزية الهامة في النظام القبلي، وهناك صفات كثيرة لهذه البنادق، منها ما يسمى ببنادق الصواب، ومنها بنادق التحكيم، وغيرها من التسميات التي تقتضيها المناسبة، وفي العادة فإن حجم ونوعية السلاح يعتمد على حجم الفعل ونوعيته. ويضاف للبنادق تسليم سيارة أو أكثر للطرف الأخر أو الوسطاء من أجل حل أو تجميد خلاف ما.
[17] رد البراء يقصد بها التحلل من عهد سابق، أو التخلي عن المسئولية؛ فعندما يكون هناك اتفاقية صلح بين قبيلتين ويرغب أحد الأطراف، في الغالب من له دين ويسمى المنقوص ، بإلغائها، أو عدم تجديدها، فإنه يقوم بإعلان رد البراء، والذي على ضوئه يصبح الطرف المعلن متحللاً من الالتزامات التي عليه. 
[18] عبارة زكن تعني في اللهجة المتداولة في المناطق القبلية الإعلام فيقال زكن على فلان بمعنى اعلمه. ويمكن الاستنتاج أن هذه العبارة تعني إعلام الطرف الأخر بإعلان الحرب.
[19] كلمة المرزى تعني الإمساك أو التوقف وهنا يدل المعنى أن على الطرف المعلن للحرب تأجيل أو تعلق قرار بدء الحرب إلى حين.
[20] مضاعفة قيمة العقوبة أربع مرات.
[21] تطلق هذه الصفة على الأسر التي يعود نسبها للنبي محمد.
[22] بني الخمس هم الأشخاص الذين يمتهنون الأعمال التي لا يمتهنها القبيلي مثل الجزارة والحلاقة والغناء وزراعة الخضروات وغيرها، وفي العادة فإن هؤلاء لا يرتبطون بعلاقة دم مع أفراد القبيلة كما أنهم لا يرتبطون مع أفراد القبيلة بروابط مصاهرة كون القبائل يرفضون الزواج منهم أو تزويجهم. وبحكم وضعيتهم فإنهم مهجرون لا يسمح بقتالهم ولا يشاركون في الغرامات القبلية، إلا بشكل طوعي إن كانوا قادرين. ويمكن الاستنتاج أن أفراد هذه الفئة أتوا من خارج القبيلة.
[23] دية النساء وفقا للشريعة الإسلامية نصف دية الرجل
[24] أحد الفئات التي سنأتي على ذكرها في الصفحات القادمة.
[25] خنجر يحتزم في البطن يتجه من الجهة اليمنى أسفل البطن، ويتجه للأعلى بشكل مائل باتجاه الصدر.
[26] لعملية اليمين وظيفة مهمة في الثقافة العربية الإسلامية, فهناك قاعدة فقهية في الشرع الإسلامي تقول إن " على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين " هذه القاعدة تستند على اعتقاد ديني راسخ بأن الله يعاقب من يقسم يمينا كاذبة معاقبة شديدة. وتزيد من هيبة هذه العملية صيغة القسم ومكانه. فعادة ما يؤدى القسم في داخل مساجد معينة، كالجامع الكبير في صنعاء , وبالتحديد في أماكن خاصة داخل هذا المسجد حيث يعتقد أن أداء يمين كاذب في هذه الأماكن عمل يؤدي إلى انتقام ألهي مباشر. وأما صيغة القسم فأن فيها من التوعد بإلحاق الأذى، إذا كان كاذبا، يصيبه في نفسه وأولاده وماله. وهناك كثير من القصص المتداولة عن أشخاص انتقم الله منهم انتقام شديد بعد أن أدوا يمين كاذب
[27] استعملت العملة الفضية النمساوية التي عليها صورة الملكة (ماريا تيريزا ) كعملة متداولة في كل مناطق اليمن في الفترة التي سبقت قيام الثورة، وتسمى بالريال الفرانصي، أي فرنسي، وكانت هذه العملة هي وحدة القياس في التعامل في تبادل السلع, وكذلك في تحديد حجم العقوبات في العرف القبلي.
[28] أفاد للباحث عدد من شيوخ قبيلة عمران، التابعة لقبائل حاشد، أن قبيلتهم تنازلت عن قرية (نجر) والتي كانت مجاورة لمدينة عمران (أصبحت الآن ضمن المدينة) لقبيلة عيال سريح التابعة لقبيلة بكيل، كتعويض عن حرب جرت بين القبيلتين قبل أكثر من مائة عام. وتعكس طريقة التعويض هذه، شكل الانتماءات القبلية والتي تخالف ضرورة النسب الأبوي.    

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدور الخارجي في حرب 1994

هل هناك سند قانوني لفك الارتباط أو تقرير مصير جنوب اليمن؟ دراسة قانونية/سياسية

لماذا هجمات الحوثيين غير مؤثرة على الحرب في غزة؟