التأثيرات المزدوجة للعولمة على المجتمعات العربية
التأثيرات المزدوجة للعولمة على المجتمعات العربية
(ورقة قدمت في مؤتمر لمنتدى الفكر العربي في عمان ابريل 2017)
أفرزت العولمة، خاصة في شقها الثقافي، نتائج متناقضة؛ حيث
أنها خلقت هويات واسعة حدودها المجتمع الإنساني بتنوع مكوناته الثقافية والعرقية
والاجتماعية والسياسية، وهويات صغيرة ميكرسكوبية لا تتجاوز حدود العشيرة والقرية
والطائفة وغيرها.
وكان لثورة المعلومات، وتحديدا وسائل الإعلام، كالقنوات
التلفزيونية التي تبث عبر الأقمار الصناعية وشبكة الانترنت، وبرامج التواصل
الاجتماعي وغيرها، دور كبير في خلق مجتمعات متشابهة إلى حد كبير. وقد شمل هذا التشابه
مظاهر كثيرة تضمنت: القيم السياسية والفكرية، والمعارف العلمية، وأساليب الإنتاج، ونظم
الإدارة، وأنماط الاستهلاك، والمظاهر الثقافية والاجتماعية المتشابهة، والتي تزداد
تشابها يوما بعد أخر، ونجدها في أوضح تعبير لها في مجالات الفنون والرياضة
والأزياء وعادات الأكل واقتناء المنتجات واستخدامها.
وكل تلك المظاهر خلقت عالم شديد التجانس خاصة لدى جيل الشباب
وبالتحديد سكان المدن والفئات الأكثر تعلما وثراءً.
في المقابل ساهمت نفس وسائل العولمة في بروز حركات شديدة
الانعزالية ترفض الآخر، وتتعصب لذواتها تحت لافتات دينية ووطنية وعرقية وجهوية
وغيرها. وقد تم لها ذلك من خلال استخدام وسائل الاتصالات وشبكات التواصل الحديثة، والتي
سهلت لها إيصال أفكارها إلى شرائح وأفراد ما كان لها أن تصل إليهم دون هذه الوسائل.
فعبر شبكة الانترنت والقنوات الفضائية تمكنت الحركات الانعزالية، بما فيها
الجماعات الإرهابية، من اختراق حدود الدول والقارات، وقامت بنشر أفكارها، وتجنيد
الكثير من الانصار، وتحديدا من فئة الشباب، لمشاريعها المدمرة.
وفي العالم العربي نجد تأثيرات العولمة المتناقضة واضحة جدا
في المدن الكبرى؛ ففي هذه المدن هناك الكثير من مظاهر التشابه الشديدة، وخاصة بين
جيل الشباب، في أكثر من جانب، كالأزياء والاهتمامات الفكرية والميول الفنية
والرياضية. في نفس الوقت؛ نجد داخل هذه المدن، وفي الارياف، مظاهر لجماعات مغايرة
لأولئك بشكل كلي من حيث المظهر الخارجي –الملابس وقصات الشعر- وطبيعة الاهتمامات الفكرية
والفنية.
وعلى الرغم من أن مظاهر التشابه الذي أفرزته العولمة هو
الأكثر وضوحا على مستوى العالم، وفي العالم العربي تحديدا؛ إلا أن تأثير الجماعات
الانعزالية، وتحديدا الجماعات الأصولية، كبيرا ومؤثرا، خاصة في المناطق المضطربة
والتي تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية. وقد نتج ذلك بسبب امتلاك
هذه الجماعات لموارد مالية، وتنظيمات سياسية أو اجتماعية فاعلة، وبرامج وأهداف
واضحة، وهو الأمر الذي جعل لها صوت عالي وحضور لافت وقوة فعل على الأرض أكبر بكثير
من حجمها الفعلي.
تبدو الحركات والأفكار الانعزالية وكأنها حالة مرضية من ردود
الفعل تجاه العولمة، حيث اعتمدت على خطاب تحريضي يرى في العولمة مؤامرة كونية
تحيكها قوى شريرة من أجل الهيمنة والسيطرة على العالم. وترى في حالة التشابه خطر
على الهويات المحلية، وتعميم لنمط واحد من العالم.
وقد ساعد الانعزاليون في مسعاهم الوجه السلبي للعولمة، أو ما
يمكن تسميته بالأعراض الجانبية المصاحبة لها، والتي تم تضخميها وتسلط الضوء عليها،
وتجاهل الجوانب الإيجابية الكثيرة؛ ويمكن الإشارة إلى النقاط التالية كأمثلة على
الجوانب السلبية للعولمة:
أ- تهديد الهويات المحلية والتي تشمل طيف واسع من الصفات والخصائص العامة
التي تميز مجتمع ما عن غيره، مثل المعتقدات الدينية، والثقافة السياسية ، والقيم
العائلية، والأزياء والطعام.
ب- الأضرار التي لحقت ببعض القطاعات الاقتصادية جراء العولمة؛ حيث أن
زيادة التفاعل الاقتصادي بين الدول يؤدي إلى تضرر بعض القطاعات واستفادة البعض
الأخر وما يقوم به الانعزاليون أنهم يركزون على القطاعات المتضررة ويضخمون من خسائرها
فيما يتم تجاهل الفوائد التي جنتها القطاعات المستفيدة.
ت- ارتفاع معدلات الهجرة لرؤوس الأموال وكذلك المصانع ومكاتب الشركات
والتي هاجرت من مواطنها الأصلية بحثا عن فرص استثمار وإنتاج في دول أخرى.
ث- زيادة معدلات الهجرة بين الشعوب وخاصة من الدول الفقيرة للدول الغنية،
وما صاحب ذلك من مشاكل اقتصادية وحساسيات ثقافية واجتماعية.
أن من المؤكد أن العولمة طريق من اتجاهين فجميع الدول
والمجتمعات تؤثر وتتأثر بالعولمة بحسب قوتها الاقتصادية وحضورها الثقافي ودرجة
تعولمها، ومع ذلك فالشكوى من العولمة منتشرة في جميع المجتمعات الفقيرة والغنية
على السواء.
في العالم العربي عززت العولمة من المشتركات بين الشعوب
العربية حين ابرزت الكثير من الخصائص والقيم والاهتمامات المشتركة، إلا أنها ساهمت
في إبراز الهويات المحلية؛ فالكثير من العرقيات والطوائف والقبائل والمناطق
الجغرافية تمكنت من إبراز هوياتها الخاصة من خلال تملك وسائل إعلام خاصة بها - بعد
أن ضعفت سيطرة الدول على الفضاء الثقافي - واستخدام شبكات التواصل الاجتماعي
لإبراز تلك الهويات ونشر ثقافاتها الخاصة.
إبراز الخصوصيات الثقافية لمكونات المجتمع المختلفة لا يعد
مشكلة في حد ذاتها، إذ يمكن أن يشكل إضافة نوعية وحالة إيجابية للمجتمع حين يترافق
مع قيم التعايش والقبول بالأخر، ويكون محميا من المؤسسات الرسمية والشعبية والقوانين
العادلة والفعالة. وبالعكس من ذلك؛ ينتج عن إبراز الخصوصيات الثقافية الصراع
والتوتر والذي قد يصل حد الاحتراب حين تسود قيم التعصب ورفض الأخر وعدم الاعتراف
بخصوصيته، وغياب المؤسسات الرسمية والشعبية الضامنة لممارسة الحقوق والحريات.
فالتعدد في حد ذاته لا يمثل مشكلة كما أن التجانس لا يعتبر
حسنة وميزة؛ فمن خلال التجربة التاريخية المعاشة نجد أن الكثير من المجتمعات
المنسجمة دينيا وعرقيا واجتماعيا، وثقافيا تعاني من الاحتراب والفوضى؛ فيما الكثير
من المجتمعات المتعددة تعيش في حالة استقرار وازدهار، ويرجع السبب في ذلك إلى حضور
أو غياب المؤسسات والثقافات الجامعة؛ فالصومال على سبيل المثال يعد من أكثر
المجتمعات تجانسا إلا أنه يشهد حالة من الحرب والفوضى منذ فترة طويلة فيما دولة
مثل سويسرا المتعددة لغويا ودينيا نموذجا للاستقرار والازدهار والوحدة الوطنية.
ولهذا فإن شرط الاستقرار والازدهار ليس الوحدة والانسجام الثقافي،
وإنما المؤسسات والأفكار الجامعة، وهو الأمر الذي يتطلب منا خلق هذه المؤسسات ونشر
هذه الثقافات إن اردنا الاستقرار والنماء والتطور.
إن القيم المشتركة والتي تخلق السلم والانسجام والرقي في
المجتمع كقيم الحق والعدل والجمال لا يمكن لها أن تزدهر وتسود من تلقاء نفسها، مهما
بلغ كبر حجم معتنقيها، فهي تحتاج إلى من يؤطرها ويبذل الجهد والإمكانيات في نشرها،
فيما قيم التعصب والكراهية والإرهاب رغم سوئها وقلة عدد معتنقيها، قد تصبح مؤثرة
وسائدة في حال تم العمل على نشرها وتنظيم أصحابها في حركات سياسية واجتماعية فاعلة.
من غير الممكن التنبؤ باتجاه حركة التاريخ في ظل هذه الموجات
السريعة من الثورات المعلوماتية؛ فالتجربة التاريخية القريبة أظهرت نتائج متناقضة
لهذه الثورات طغى على بعضها الفشل والإحباط والبعض الأخر النجاح والأمل. ومع ذلك فإن
دعاة الانعزال ومهما حققوا من نجاحات هنا وهناك لا يمكنهم أن يغيروا مجرى التاريخ لأنهم
يقفون في الموقع الخطاء منه، حيث أنهم يستطيعون أن يعرقلوا حركة التاريخ في بعض
الأوقات وفي بعض المحطات، وربما ينجحون في إعادة عقارب الساعة إلى الخلف لبعض
الوقت؛ إلا أن حركة التاريخ ستتجاوزهم، فحركة التاريخ المتحركة للامام تستند على
واقع موضوعي صلب، ولديها الوسائل والحجج القوية التي تجعلها تنتصر وتهزم القوى
الانعزالية. في المقابل تستند الحركات الانعزالية على أرضيات هشة وتستثمر أحداث
طارئة وتبني نفسها على ردود الأفعال والمخاوف المضخمة.
تعليقات
إرسال تعليق